الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عصر يتسم بالتطور السريع والمنافسة الحادة، أصبحت النزاعات التجارية واحدة من أبرز التحديات التي تواجه المنشآت التجارية، فالنزاعات! بطبيعتها لا تقتصر فقط على خلافات عقود أو تنفيذ الالتزامات، بل تتسع لتشمل تباينات قانونية وتجارية قد تعوق استدامة الأعمال. من هنا تتجلى أهمية التسوية الرضائية وحوكمة بنود التسويات كوسيلة استراتيجية وضرورية لضمان استمرارية العلاقات التجارية وتجنب تعقيدات التقاضي الطويل أو التحكيم المكلف.
تمر أي علاقة تعاقدية بمرحلة تسبق النزاع تعرف بمرحلة الخلاف، حيث تبدأ هذه المرحلة بتباين في وجهات النظر بين الأطراف المعنية، وعادةً حول نقاط جزئية أو رئيسية تتعلق بتنفيذ الالتزامات المتفق عليها. مع استمرار الخلاف دون حلول مرضية، يتطور الأمر إلى نزاع واضح، حيث تتحول العلاقة بين الأطراف من علاقة تقوم على التعاون وتبادل المصالح المشتركة إلى علاقة يسودها التنافس والتنازع على الحقوق والمصالح. في هذه المرحلة، يسعى كل طرف إلى تقليل التزاماته تجاه الآخر، دون مراعاة للمصالح أو التنازلات التي قدمها الطرف الآخر، مما يزيد من حدة التوتر ويؤدي إلى تصعيد الموقف. وهنا يبرز دور التسوية الرضائية كوسيلة مثلى للتخفيف من التصعيد وإعادة بناء جسور الثقة بين الأطراف.
على نقيض القضاء والتحكيم، اللذين يُعتبران الوسيلتين الشائعتين لحل النزاعات، إلا أنهما لا يخليان من التحديات، فالقضاء والتحكيم يعتمدان على السلطة التقديرية سواء للقاضي أو المحكم، مما يجعل النتائج غير مضمونة تماماً، وقد تكون مغايرة لتوقعات الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، يعاني القضاء من طول المدة الزمنية اللازمة لحل النزاع، إلى جانب المخاطر الناتجة عن العلانية وتأثيرها السلبي على سمعة الأطراف. أما التحكيم، فقد تكون التكاليف الباهظة وعدم مهنية بعض المحكمين تحديات جديدة، ومن جهة أخرى تقدم التسوية الرضائية بدائل فعّالة تتميز بالمرونة وسرعة الإنجاز. فمن خلال آليات مثل التفاوض والوساطة، يمكن للأطراف التحكم في نتائج النزاع والوصول إلى حلول مرضية لجميع الأطراف. والأهم من ذلك، أن التسوية الرضائية تحافظ على العلاقات التجارية بين الأطراف، مما يُعزز من فرص التعاون المستقبلي.
لذلك تُعد حوكمة بند التسويات في العقود أحد أهم العناصر التي تجعل التسوية الرضائية أداة فعّالة وموثوقة لحل النزاعات التجارية. فهذا البند يمثل ركيزة أساسية في صياغة العقود الحديثة، حيث يضمن معالجة النزاعات بطريقة منظمة وسريعة، مع توفير إطار زمني واضح ومحدد لكل مرحلة من مراحل التسوية. وذلك عندما يتم تصميم بند التسوية بشكل مُحكم، فإنه لا يقتصر فقط على كونه نصاً قانونياً في العقد، بل يتحول إلى استراتيجية متكاملة تعكس مفهوم العدالة الوقائية وتوفر حلولاً عملية تعزز من استدامة العلاقات التجارية.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن يتضمن بند التسوية المُحكم ثلاث مراحل رئيسية. تبدأ المرحلة الأولى بالتفاوض المباشر بين الأطراف، حيث يلتزم الطرفان بمحاولة الوصول إلى حل ودي خلال مدة زمنية محددة سلفاً، مما يتيح لهم فرصة التعامل مع الخلافات بمرونة وبدون تصعيد. إذا لم تحقق المفاوضات النتيجة المرجوة، تنتقل العملية إلى المرحلة الثانية، وهي الوساطة- في هذه المرحلة، يتم تصعيد النزاع إلى وساطة تحت إشراف جهة متخصصة مثل المراكز المتخصصة، مما يضيف عنصر الحياد والشفافية في تسوية الخلاف. وفي حال تعذرت الوساطة، تأتي المرحلة الثالثة، وهي التحكيم أو القضاء العام، حيث يتم حل النزاع بناءً على بنود العقد المبرم.
ولكن تبقى التسوية الرضائية أكثر من مجرد أداة قانونية تُستخدم لحل النزاعات؛ فهي استثمار فعّال في استدامة الأعمال وتعزيز العلاقات التجارية بين الأطراف، وتتميز بقدرتها على تقليل الوقت المستغرق لحل النزاعات، إذ تُحل النزاعات عبر الوساطة أو التفاوض بسرعة أكبر بكثير من المسارات القضائية، مما يتيح للأطراف التركيز على أهدافهم التجارية دون انشغال بالنزاعات المطولة. إلى جانب ذلك تحمي التسوية سمعة الأطراف بفضل طبيعتها السرية، مما يجنبهم العلانية التي قد تضر بعلاقاتهم التجارية أو صورتهم العامة. والأهم من ذلك أن هذه الوسيلة تمنح الأطراف حرية التحكم في القرارات المتخذة، حيث يعتمد الحل على التفاهم والتوافق بدلاً من الاعتماد الكامل على حكم طرف ثالث. بهذه المزايا تُصبح التسوية الرضائية أداة استراتيجية تضمن استمرارية الأعمال وتعزز من قوة العلاقات التجارية.
شهدت بيئة الأعمال في المملكة العربية السعودية تطورًا ملحوظًا في تبني وسائل التسوية البديلة كجزء من الجهود لتعزيز الاستدامة وحل النزاعات بشكل فعّال. وقد انعكس هذا التوجه من خلال دعم المملكة لهذا النهج وترجمته عملياً عبر مراكز التحكيم، مثل المركز السعودي للتحكيم التجاري، الذي وضع قواعد متطورة تتماشى مع تطورات بيئة الأعمال. فبفضل هذه الجهود أصبحت الوساطة أدوات فعّالة ومتاحة للشركات التي تسعى لتجنب تعقيدات النزاعات القضائية، لضمان تحقيق أقصى استفادة من هذه الوسائل، تتطلب الحوكمة الفعّالة صياغة بنود تسوية واضحة ومحددة في العقود التجارية، بما يشمل إشراك جهات معترف بها لضمان الحياد والشفافية في حل النزاعات. على سبيل المثال يمكن صياغة بند تسوية يلزم الأطراف بحل النزاعات خلال فترة زمنية محددة عبر الوساطة أو المصالحة، مع ضمان الالتزام الكامل بتنفيذ القرارات الناتجة عن هذه العمليات.
إن نجاح المنشآت التجارية لا يقتصر فقط على تحقيق الأرباح، بل يشمل أيضاً القدرة على إدارة النزاعات بحكمة. التسوية الرضائية عند تطبيقها بطريقة مدروسة، ليست فقط وسيلة لتجنب الخلافات، بل هي استثمار في تعزيز استدامة الأعمال وبناء علاقات شراكة قوية، ولتعزيز بيئة عمل مستدامة، لذا يتعين على المنشآت مراجعة عقودها الحالية والتأكد من تضمين بنود تسوية مُحكمة تضمن معالجة النزاعات بطريقة فعّالة وسريعة. في النهاية حوكمة التسوية الرضائية ليست مجرد خيار إضافي، بل ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية الأعمال في بيئة مليئة بالتحديات. إجمالاً حوكمة بند التسويات ليس مجرد إجراء شكلي أو نص ضمن العقود، بل هي أداة استراتيجية تسهم في بناء بيئة أعمال مستدامة وتساعد الأطراف على اتخاذ قرارات مستنيرة ومبنية على العدالة التوافقية. هذا النهج لا يخفف فقط من أعباء النزاعات المطولة، بل يضمن أيضاً تقليل المخاطر المالية والحفاظ على سمعة الأطراف واستمرارية العلاقات التجارية على المدى الطويل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال