الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهد سوق العمل السعودي في السنوات الأخيرة تطورات ملحوظة مع جهود المملكة لتحقيق رؤية 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتمكين الكفاءات الوطنية وتعزيز دور القطاع الخاص باعتباره شريكاً أساسياً ومحورياً لتحقيق مستهدفات الرؤية، ومع ذلك لا تزال هناك تحديات على أرض الواقع تعكس تأثيرات ما يسمى بالرأسمالية المتوحشة على واقع سوق العمل السعودي حيث تُغلَّب المصالح الاقتصادية قصيرة الأجل على معايير العدالة والاستدامة، مما يثير أسئلة حول مدى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
واقع السوق: أرقام وإحصاءات
وفقًا لتقارير حديثة نشرها المرصد الوطني للعمل، يضم القطاع الخاص حوالي 11.27 مليون موظف، منهم 8.91 مليون من الأجانب، مقابل 2.36 مليون سعودي.
حيث تبلغ نسبة السعوديين في القطاع الخاص حوالي 23.59% فقط رغم ارتفاعها مؤخرًا نتيجة برامج التوطين الحكومية ودعم تمكين المرأة السعودية، إلا أن هذه الأرقام ما زالت دون المستوى المأمول بالنسبة لحجم القطاع الخاص والتنوع الاقتصادي في المملكة.
حيث يبلغ عدد خريجي الجامعات والمعاهد قرابة 300 ألف سنوياً ينضمون إلى الباحثين عن عمل، في الوقت نفسه يستقطب القطاع الخاص 1.2 مليون أجنبي سنوياً.
العقود المؤقتة: ارتفعت نسبتها بنسبة 35% بين عامي 2020 و2023، مما يعكس توجهًا لتقليل الالتزامات طويلة الأجل تجاه العاملين السعوديين.
الفجوة في الرواتب: الأجور المقدمة للعمالة الأجنبية تقل بنسبة 40% تقريباً عن تلك الممنوحة للسعوديين، ما يدفع بعض الشركات إلى تفضيل العمالة الرخيصة.
البطالة بين الشباب: لا تزال عند 10.6% رغم المبادرات المتعددة لتشجيع التوظيف والتوطين.
الرأسمالية المتوحشة وتأثيرها على سوق العمل:
تتجلى ممارسات الرأسمالية المتوحشة في سوق العمل السعودي من خلال:
التركيز على الأرباح السريعة: الشركات تسعى إلى خفض التكاليف على حساب استقرار الموظفين عبر الاعتماد على العمالة الرخيصة والعقود المؤقتة.
ضعف الربط بين الباحثين عن العمل والفرص الوظيفية المناسبة: مما يخلق فجوة تعيق تحقيق التوازن في سوق العمل، كما أن هيمنة التوظيف بالعلاقات الشخصية على حساب الكفاءة والمؤهلات العلمية، يؤدي إلى ضعف الإنتاجية وتعزيز عدم المساواة.
تجاهل الاستثمار في الكفاءات الوطنية: برغم مبادرات التوطين، ما زال هناك خلل في تطبيق هذه المبادرات بشكل واقعي وملموس، وما زالت تفضل العديد من المنشآت والشركات العمالة الأجنبية لتوفير التكلفة، وتهميش السعوديين حتى بعد توظيفهم من المهام والواجبات والابتعاد عن تمكينهم وتعزيز دورهم لضمان عدم وصولهم للمناصب القيادية في الشركة، وتسهيل الاستغناء عنهم.
استغلال برامج الدعم الحكومي: برامج الدعم الخاصة بصندوق تنمية الموارد البشرية “هدف” يتم استغلالها من قبل الجهات الحكومية والخاصة بشكل مؤقت دون تحقيق نتائج مستدامة.
ثقافة الاستهلاك على حساب الإنتاج: يظهر ذلك بوضوح من خلال اعتماد مختلف الجهات والشركات والأفراد على مشاهير التواصل الاجتماعي في التسويق مما يعكس توجهاً تجارياً يخدم تحقيق الأرباح فقط، متجاهلين بالضرورة الجودة والتأثير على القيم المجتمعية.
الحلول الممكنة:
لا نحتاج إلى اقتراح مشروع نظام يمر بالعديد من المراحل البيروقراطية المعقدة والتي تمر بمنحنى زمني كبير، فقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم (339) وتاريخ 2/6/1442هـ بإنشاء منصة وطنية موحدة للتوظيف لجميع الأطراف ذوي العلاقة (أفراد، قطاع عام، قطاع خاص) وقد تم اطلاق المنصة بشكلٍ رسمي بتاريخ 14/2/1446هـ ولا زال أمام تفعيلها وفق ما نص عليه القرار مشوار طويل، ولكن نظام العمل موجود ويحتاج إلى تفعيل تطبيقه من قبل الجهات والرقابة على ذلك واقترح أن يكون هناك تركيز على المادتين (الثالثة – السادسة والعشرين) التي تُلزم الجهات مهما كان نشاطها وحجمها بالعمل على اتاحه الفرصة للسعوديين لإثبات كفاءتهم واستحقاقهم للعمل كما تقوم بمنع التمييز وضمان المساواة في الفرص بين السعوديين بالإضافة إلى ذلك، فإن تعزيز الرقابة الفعالة على التزام الجهات بشكل عام والشركات بشكل خاص على الالتزام بالنظام يمكن أن يُحدث تحولًا نوعيًا في سوق العمل ليسير نحو الاستقرار والتوازن بين تحقيق الأرباح وحماية حقوق العاملين، بما يدعم تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.
سوق العمل بين الحاضر والمستقبل:
إن سوق العمل السعودي اليوم يمتلك مقومات عديدة للنجاح والبروز كنموذج يتحذى به عالمياً لكنه يحتاج إلى رؤية أكثر شمولية تُراعي العدالة الاجتماعية وتضع الإنسان في قلب التنمية الاقتصادية، فبعض التسهيلات إذا لم يتم ربطها بتنظيم ستحدث نوع من الضبابية والفوضى، وحرية الجهات في التوظيف وفق ما تراه مناسباً سواءً بالاستقطاب أو الطرح العام للفرص أو بالتقديم من خلال الموقع الخاص بالجهة الهدف منه تسريع عملية التوظيف واختصار الاجراءات البيروقراطية وتوفير الوقت والجهد، انعكس هذا التوجه بشكل سلبي على الباحثين عن عمل وعلى واقع الفرص المطروحة؛ واصبح هناك عشوائية وعدم وضوح للباحث عن عمل وتعدد للمرجعيات وتداخل في الأدوار والمسؤوليات.
وعليه فإن مسؤولية تنظيم سوق العمل يتقاسمها جميع الأطراف (القطاع العام – القطاع الخاص- القطاع شبه الحكومي – المنظمات غير الربحية) وعلى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وصندوق تنمية الموارد البشرية “هدف” التابع لها مسؤولية أكبر في قيادة المنظومة وتوجيهها نحو المسار الصحيح بما يحقق التوازن، وينبغي على الجميع الإدراك بأن تسهيل عملية التوظيف لا يتعارض مع تنظيمها، فالفجوة أصبحت واضحة بالأرقام والاحصائيات بين أعداد الخريجين السعوديين والوظائف المتاحة لهم، وبين عدد الأجانب المتزايد والمؤثر على (الاقتصاد – الأمن – الثقافة) في المجتمع وأرى أن في تفعيل تطبيق الأنظمة والرقابة على ذلك فرصة عظيمة في تحويل سوق العمل السعودي اليوم من بيئة تتأثر بالرأسمالية المتوحشة إلى نموذج يحتذى به في تحقيق التوازن بين الربحية والاستدامة وسيكون هذا التوجه نموذجاً عالمياً يبرهن على نجاح مستهدفات رؤية المملكة 2030.
ختامًا:
إن تمكين أبناء وبنات الوطن المؤهلين ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية لضمان استدامة التنمية وتحقيق رؤية المملكة 2030، وفتح المجال للكفاءات الأجنبية يجب أن يتم بحكمة مبنية على أساس التكامل وسد الفجوات، لا المنافسة على حساب المؤهلين من أبناء وبنات الوطن، هم الثروة الحقيقية للوطن وأساس نجاحها، ويستحقون كل الجهد لفتح الأبواب وتذليل العقبات أمامهم ليحققوا أحلامهم ويسهموا في بناء مجتمعهم، والقيام بدورهم، فالرهان على الطاقات الشابة هي الوقود لتحقيق طموحاتنا الوطنية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال