الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم تتزايد فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يتزايد الاهتمام بالاستثمار في الطفولة المبكرة كوسيلة لتحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز التنمية المستدامة. تظهر الأدلة العالمية أن السنوات الأولى من حياة الطفل تشكل نافذة حاسمة للتطور الجسدي والعقلي والعاطفي، مما يجعل الاستثمار في هذه المرحلة ركيزة أساسية لبناء رأس المال البشري.
تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يحصلون على رعاية وتعليم عالي الجودة في سنواتهم الأولى يتمتعون بفرص أكبر للنجاح الأكاديمي والمشاركة الفاعلة في سوق العمل لاحقًا. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) فإن كل دولار يُنفق على التعليم والرعاية في الطفولة المبكرة يمكن أن يولد عائدًا اقتصاديًا يصل إلى 6 دولارات على المدى الطويل، ويرجع هذا العائد إلى تقليل الحاجة إلى خدمات الدعم التعليمي، وخفض معدلات الجريمة، وزيادة الإنتاجية الاقتصادية.
في دراسة رائدة أجراها الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل “جيمس هيكمان” حول تأثير الاستثمار في الطفولة المبكرة، تبين أن برامج التدخل المبكر مثل برنامج Perry Preschool في الولايات المتحدة أسفرت عن نتائج إيجابية مذهلة، من أبرزها الأطفال الذين شاركوا في البرنامج أظهروا معدلات تخرج أعلى من التعليم الثانوي، وزيادة في الدخل مدى الحياة بنسبة تجاوزت 25% مقارنة بأقرانهم، كما أن هذه البرامج أدت إلى انخفاض كبير في معدلات الجريمة بنسبة 40% بين المشاركين.
عالميًا؛ تظهر مقارنة بين الدول التي تستثمر بكثافة في برامج الطفولة المبكرة مثل السويد والنرويج، والدول التي تعاني من نقص التمويل في هذا المجال فرقًا واضحًا في العوائد الاقتصادية. على سبيل المثال في السويد يتم تخصيص ما يعادل 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي لبرامج الطفولة المبكرة، مما ساهم في تحقيق مستويات مرتفعة من المساواة الاجتماعية والنمو الاقتصادي. في المقابل، تظهر دول مثل الهند تفاوتًا كبيرًا بسبب محدودية الاستثمار في هذه المرحلة، حيث يعاني أكثر من 40% من الأطفال دون سن الخامسة من نقص التغذية الحاد.
تشير إحصائيات البنك الدولي إلى أن الأطفال الذين يتلقون تعليمًا ورعاية مناسبة في سنواتهم الأولى يحققون زيادة في متوسط دخلهم السنوي بنسبة تتراوح بين 10% و20% على مدى حياتهم. وبالإضافة إلى ذلك تساهم هذه الاستثمارات في تحسين الصحة العامة؛ إذ أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن برامج التغذية والتدخل الصحي في الطفولة المبكرة تقلل من احتمالية الإصابة بالأمراض المزمنة في مراحل لاحقة من الحياة بنسبة تصل إلى 30%.
في الولايات المتحدة، خصصت الحكومة الفيدرالية في عام 2021 حوالي 20 مليار دولار لدعم برامج مثل Head Start، والتي تخدم الأطفال من الأسر ذات الدخل المنخفض. وبحسب تقييم البرنامج، فإن الأطفال الذين شاركوا فيه سجلوا زيادة في معدلات الالتحاق بالجامعة بنسبة 12% مقارنة بأقرانهم، كما أن كل دولار يُنفق على البرنامج يؤدي إلى توفير حوالي 7 دولارات من التكاليف المستقبلية المرتبطة بالرعاية الصحية وخدمات إعادة التأهيل.
تقدم دول مثل فنلندا نموذجًا ناجحًا يمكن أن تحتذي به الدول الأخرى، حيث تركز سياسات فنلندا على توفير خدمات تعليمية مجانية وعالية الجودة للأطفال منذ الولادة وحتى سن السادسة. أظهرت التقارير أن هذه الخطوات جعلت فنلندا واحدة من أعلى معدلات الإنتاجية في أوروبا. وفي المقابل؛ تُظهر التجربة في جنوب أفريقيا تحديات نقص التمويل، حيث لا يحصل سوى 30% من الأطفال على خدمات تعليمية ورعاية مناسبة، مما يؤدي إلى استمرار حلقة الفقر عبر الأجيال.
وفي اليابان أطلقت الحكومة مبادرة وطنية تُعرف باسم “استراتيجية الأطفال”، والتي تهدف إلى زيادة الإنفاق على التعليم المبكر بنسبة 20% خلال العقد القادم. يُتوقع أن تؤدي هذه المبادرة إلى تعزيز الابتكار وزيادة عدد العاملين المؤهلين في قطاعات مثل التكنولوجيا والرعاية الصحية، مما يدعم الاقتصاد الياباني المتقدم.
ولا يقتصر الأثر الاقتصادي للاستثمار في الطفولة المبكرة على الأفراد فقط، بل يمتد ليشمل المجتمعات والدول بأكملها. عندما يتم تمكين الأطفال من خلال التعليم والرعاية المبكرة، يتحسن رأس المال البشري العام، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف الاجتماعية المرتبطة بالجريمة والبطالة. كما أن التركيز على التعليم المبكر يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما الهدف الرابع المتعلق بتوفير تعليم عالي الجودة للجميع.
في الختام؛ يظل الاستثمار في الطفولة المبكرة أحد أكثر الاستراتيجيات الاقتصادية فعالية لتحقيق التنمية المستدامة، والأرقام والبيانات العالمية تؤكد أن بناء مستقبل مستدام يبدأ من الاهتمام بالأطفال في سنواتهم الأولى.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال