الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
خلق الله عز وجل هذا الكوكب في توازن وتناغم، مازال الانسان عاجزاً عن معرفة أسراره. كما اُمِر الإنسان أن يحافظ على هذا التوازن، قال تعالي في سورة الأعراف (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). ان التزايد السكاني يعني زيادة الاستهلاك والحاجة الى مصادر مثل الأراضي الزراعية والاسمدة والماء وغيرها مما يتطلبه توفير الطعام. ان الهدف رقم ١٢ من أهداف التنمية المستدامة ينص على (ضمان أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة). حيث يغطي هذا الهدف كل من الكفاءة في استخدام الموارد الطبيعية والاثار البيئية، كما يشارك هذا الهدف بتوفير المعلومات للمستهلكين والتثقيف بشأن أنماط الحياة المستدامة إضافة الى وضع سياسات للاستهلاك والإنتاج المستدامين.
ولتبسيط المسألة سنركز الحديث عن العادات المجتمعية في الاستهلاك لدينا والتي لا تتوافق مع هذا الهدف. نجد في هذه الأيام ما لم نراه في عادات آباءنا وأجدادنا وهو الاسراف في الطعام كما نرى أمام أعيننا أو في شاشات برامج التواصل الاجتماعي من مخلفات الطعام بعد الولائم. والحقيقة أن معظم دول العالم تعاني من هذه المشكلة، حيث أن ٩٣١ مليون طن هو تقدير ما تم رميه في النفايات من الطعام في عام ٢٠١٩م. وذلك ما يعادل ١٧٪ من كمية انتاج الطعام لذلك العام. بينما يعاني قرابة ٩٪ من سكان العالم من سوء التغذية في الدول الفقيرة. كان للشيخ علي الطنطاوي مقال سماه (بطون جائعة وأموال ضائعة) ذكره في احدى حلقاته التلفزيونية يتكلم عن الولائم في الحفلات والأعراس والتبذير فيها وناس جائعين في نفس الوقت.
التعداد السكاني في تزايد مستمر مما يتطلب زيادة الاستهلاك وبالتالي زيادة المصادر. ولكن لحل هذه المشكلة من الاستهلاك الجائر يجب تغيير أنماط الاستهلاك وذلك بالاستفادة من المصادر وطرق الإنتاج. نرى في السنوات القليلة الماضية أنماط جيدة في الصناعة والزراعة ساعدت في خفض استهلاك المصادر وتحديد الإنتاج سواء على صعيد المنشئات أو الافراد. على سبيل المثال: الري واستخدام الأنماط الذكية للري لتحسين كفاءة استخدام المياه باستخدام أجهزة استشعار لقياس الرطوبة ودرجة الحرارة وبذلك تحديد الكمية المطلوبة من المياه. إضافة الى استخدام العديد من الأنماط الأخرى مثل أنابيب الزراعة المائية والتنقيط وغيرها. يساهم ذلك في تحقيق الاستهلاك والإنتاج المستدام بمعنى (إنجازا المزيد بطريقة أفضل وتكلفة أقل).
لماذا نغير طريقة استهلاكنا للغذاء؟
لنطرح بعض الأسئلة الفرعية لحل لغز السؤال السابق. هل استهلاك الغذاء هو أمر مادي فقط؟ فمثلا لو اتى شخص واستضاف مجموعة ووضع، اكراما لهم، كمية كبيرة من الأنعام التي ربما لن تتأثر كميتها بعد انتهاءهم من الوجبة. هل تلك تكلفة مادية فحسب؟ والسؤال الاخر، من أين أتى هذا الطعام؟ ان هذا الطعام كي يصل الى هذه المرحلة فقد مر بمراحل متعددة من انتاج وزراعة لتغذية الماشية ومعدات وأسمدة وأشخاص يعملون إضافة الى الطاقة المستهلكة للإنتاج، وهي في الأغلب من أصل بترولي.
لنقف هنا على مصادر الطبيعة التي تم استهلاكها في مثل هذه الوجبة. كمية كبيرة من الأسمدة (مركبات النيتروجين والبوتاسيوم والفسفور وغيرها) تم استخلاصها وانتاجها لزراعة غذاء ذلك الحيوان إضافة الى الماء الذي تم استخدامه والذي أخذ مراحل عديدة من الإنتاج حتى وصل الى التربة للري (هذا في حال ان الماء مر بمراحل التحلية والتعقيم وليس مباشرة من المطر). حيث تستهلك تلك المرحلة الموارد الطبيعة وتستنزفها اذا لم يتم وضع ذلك في عين الاعتبار وتم النظر الى ذلك ماديا فقط. يبدوا أن المسألة خرجت من كونها حرية شخصية ومادية الى كونها استنزاف لموارد البلاد والعباد. والمعنى أن الولائم المبالغ فيها هي استنزاف للمصادر الطبيعية وليست حرية شخصية (مادية) يقوم بها الشخص فقط.
ما الذي يحتاج الى تغيير من قبل الفرد؟
يجب على الجميع تفهم معنى موارد الطبيعة والحفاظ عليها وعدم استنزافها ولتكن من نظرة شرعية قبل كونها حقائق علمية أو دراسات اقتصادية. لذلك على كل شخص أن يعمل ما بوسعه لتغيير تلك الثقافة داخل اسرته ومجتمعه. والتعامل مع ما حولك بأنها نعم من نعم الله يجب الحفاظ عليها وتدريب الأسرة والأطفال على ذلك. حيث تكون البداية من داخل البيت وفي التربية. كان أحد كبار العلماء في مأدبة طعام وقبل أن يتوقف بدأ يجمع ويأكل ما تناثر منه قائلا لمن استنكر فعله ممن حوله: “ما تركته من طعام فأنا مسؤول عنه أمام الله وسيحاسبني عليه، أما ما تبقى في الصحن الكبير فمسؤولية صاحل الوليمة”. هذا منهج رائع في معرفة حدود الشخص فيما سيحاسب عليه من الافراط في النعم.
كنت في أحد المطاعم ووجدت رجلاً تبين عليه علامات الدين والوقار. ولكن كمية الطلبات التي تركها بعده لم تكن تعكس ما كان عليه من مظهر ديني وأخلاقي. فقد ترك عدة أطباق مليئة بالأكل وبواقي قطع وفتات خبز متناثرة. وهذا الفعل قد تعارف عليه العديد من الناس في مجتمعنا اليوم، فلو سألت أحدهم لقال إنها مسؤولية صاحب المطعم يعطيها المحتاجين. ولكن هل هذا واقع؟ أم هي مسؤولية الشخص الذي طلب هذا الطعام؟ كان الشيخ الطنطاوي رحمه الله يصف أن الذي يتصدق بالأكل غير الذي يتصدق بالأكل والمشاعر معا. فإذا تركت طعاما لشخص، قدمه على صورة جيدة نظيف ومغلف حيث تتصدق بالطعام وبالمشاعر، فلا يحس أنه بواقي طعامك أعطيته إياه بدل أن ترميه.
كما يشارك المستهلك في اختيار المنتجات الصديقة للبيئة والتقليل قدر المستطاع من ثقافة الإفراط في الاستهلاك في جميع النواحي.
ماهي مسؤولية المنظمات والسياسات؟
تنفذ الحكومات سياسات ولوائح تهدف الى الحد من الاستهلاك وتعزيز الاقتصاد الدائري. وانشاء مراكز أبحاث لحلول جديدة وتصاميم من شأنها الحفاظ على التوازن البيئي للتقليل من الانبعاثات الكربونية. غالبا ما تتوافق أهداف هذه المنظمات مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والتي تسعى الى الحفاظ على معدلات ارتفاع درجات الحرارة العالمية أقل من 1.2 درجة مئوية للإسهام في حل مشكلة التغير المناخي.
ما هي مسؤولية الشركات؟
إن على عاتق الشركات والمصانع مسؤولية كبيرة للإنتقال الى هذا النمط الجديد، بدءاً باستخدام طاقة نظيفة Clean Energy قدر المستطاع واستخدام تقنيات استخلاص الكربون وإعادة استخدامه وتخزينه وذلك لتعزيز مبدأ الاقتصاد الدائري Circular Economy. ومن ذلك يسهل تطبيق مبدأ تثمين النفايات Waste Valorisation.كل ذلك ممكن عند تغيير البنية التحتية وتغيير أسلوب العمل المعتاد Business as Usual واستخدام الجودة بالتصميم Quality by Design وقياس ذلك بمعرفة اقتصاد الذرة Atom Economy. ان ذلك يساعد على قطع الانبعاثات الكربونية Cutting Carbon Emissions لتبقى البيئة في توازن وينعم الناس في رغد من العيش.
لمعرفة تعاريف تلك المصطلحات ارجع الى مقال (مصطلحات في الاستدامة). https://maaal.com/2024/05/%d9%85%d8%b5%d8%b7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%af%d8%a7%d9%85%d8%a9%d8%9b-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%ac%d9%88%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8f/
ان معالجة الإفراط في الاستهلاك أمر ديني يجب النظر اليه بمحمل الجد كما قال تعالى في سورة الأنعام (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره اذا اثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين). فإن معالجة فقدان الغذاء يجب الاستثمار فيه وبذل الجهد بداية من الشخص نفسه وحتى الوصول الى تطبيق سياسات خاصة من قبل الجهات ذات الصلاحية إضافة الى الاستثمارات في التكنولوجيا والبنية التحتية والتعليم والأسرة مما ينعكس على ثقافة المجتمع في المستقبل القريب.
المرجع:
Amicarelli, V., Lagioia, G., & Bux, C. (2021). Global warming potential of food waste through the life cycle assessment: An analytical review. Environmental Impact Assessment Review, 91, 106677.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال