الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تشهدُ مدينةُ الرياض، بصفتِها إحدى أسرعِ مدنِ العالم نموًا، تحدياتٍ مروريةً تُؤثِّرُ على جودةِ الحياةِ وكفاءةِ الحركةِ الاقتصاديةِ داخلَها. ومع ازديادِ أعدادِ السياراتِ على الطرقاتِ وارتفاعِ مستوى التنميةِ الحضرية، باتَ من الضروريِّ تبنِّي سياساتٍ مبتكرةٍ للحدِّ من الازدحامِ المروري. يستعرضُ هذا المقالُ الحلول المحتملة، مُستندًا إلى رؤية القيادة كسلعة خاضعة لمنطق الطلب والعرض، وإلى تجاربِ مدنٍ عالميةٍ عالجت مشكلاتٍ مماثلة، مع الأخذ بعين الاعتبار جوانب العدالة ورفاهية المجتمع.
أوّلًا: الجذور الاقتصادية للازدحام المروري
إنّ النظر إلى القيادة بوصفها سلعةً محدودة القدرات الإنتاجية (أي الطرق) يجعلنا ندرك أنَّ “عنق الزجاجة” في أوقات الذروة يحدث بفعل زيادةٍ هائلةٍ في الطلب مقابل قدرةٍ ثابتةٍ أو محدودة للعرض. وفي هذا السياق، يعزو كثيرٌ من الاقتصاديين جزءًا من الأزمة إلى عدم وضع “سعرٍ حقيقيّ” للازدحام، فبقدر ما تكون كلفة قيادة السيارة (من وقود ورسوم مواقف ووقت إلخ) منخفضة، يرتفع الطلب وتزداد حركة المركبات.
من جانبٍ آخر، لا تقتصرُ المشكلة على البنية التحتية؛ إذ إنَّ بناءَ المزيدِ من الطرق قد يُولِّد ما يُعرَفُ بـ”الطلب المستحثّ”: كلما توسَّعت الطرق، ازداد إقبالُ الأفراد على اقتناء سياراتٍ إضافية أو القيام بالمزيد من الرحلات، وهو ما قد يعيد الازدحام إلى مستواه السابق أو أكثر. وبالتالي، فإن أي محاولةٍ لحلِّ المشكلة يجب أن ترافقها سياساتٌ شاملةٌ لإدارة الطلب وإيجاد بدائل تنقُّل مستدامة.
ثانيًا: السياسات المالية والاقتصادية
فرض ضرائب ورسوم على القيادة
يشيرُ المنطقُ الاقتصادي إلى أنَّ تقليل الطلب على سلعةٍ ما يتحقّق غالبًا برفع سعرها أو تكلفتها. وعليه، فإنَّ فرض ضرائبٍ أعلى على الوقود أو تطبيق رسومٍ على استخدام الطرق خلال أوقات الذروة هو أحد الأدوات الفاعلة في تخفيف الازدحام. على أن تكون هذه الأدوات متزامنةً مع توفير بدائل نقل عام جيدة ومتاحة؛ فالمبدأ الأهم هو تحقيق العدالة الاجتماعية، بحيث لا يتحمّل العبءَ الإضافي سوى مَنْ يصرُّ على القيادة في أوقاتٍ لا تكون فيها بدائلُ مناسبة.
تفعيل النقل العام وتمويله
شهدت مدينة الرياض نقلةً نوعيةً مع افتتاح مترو الرياض في أواخر عام ٢٠٢٤، إلى جانب توسع الحافلات داخل المدينة. إنَّ تعزيز هذه المشروعات يُقدّم البديل المناسب لتخفيض الطلب على الطرق الخاصة، وذلك عبر جذب شريحةٍ كبيرةٍ من المستخدمين الذين سيختارون النقل العام بدلًا من سياراتهم الخاصة، إذا توفّرت لهم سرعةٌ وراحةٌ وتكلفةٌ مناسبة. ولنجاح هذا الانتقال، يمكن توجيه عائدات أي ضريبةٍ أو رسومٍ مفروضةٍ على الوقود أو القيادة في أوقات الذروة لتطوير وتحسين وسائل النقل العام، بما يضمن استمراريتها وجودتها.
رسوم الازدحام في مراكز المدن
تطبيق رسوم الازدحام في المناطق المركزية – بعد دراسةٍ دقيقةٍ للبنيةِ التحتيةِ المتوفرة وبدائل النقل العام – يمكن أن يحقق نتائج إيجابية في تقليل أعداد المركبات الداخلة إلى قلب المدينة خلال أوقات الذروة. وقد نجحت بعض المدن العالمية في تخفيف الازدحام، وتحسين انسيابية الحركة، إضافةً إلى تحسين جودة الهواء في المناطق الأكثر حيوية. لكن ينبغي الحرص على توافر طرقٍ بديلةٍ أو وسائل نقلٍ متعددة تضمن الحدّ الأدنى من المساس باحتياجات الناس اليومية.
ثالثًا: التمازج بين الطلب والعرض
من المهمّ التذكير بأنّ أي سياسةٍ تعتمد على فرض رسوم أو ضرائب على القيادة ليست سوى نصف الحل؛ إذ يجب تبنّي سياساتٍ ترفع “عرض” بدائل المواصلات عالية الجودة. هكذا تتكوّن معادلةٌ متكاملة: رفع تكلفة القيادة في أوقات الذروة، مع تهيئة بديلٍ جذّاب (النقل العام أو المشي أو الدراجات)، وتوظيف إيرادات الرسوم في تطويره. هذه المقاربة تجعل السياسات الاقتصادية أكثر مقبوليةً اجتماعيًّا؛ لأنّها تظهر اهتمامًا حقيقيًّا بالعدالة وتراعي رفاهية المجتمع.
رابعًا: التجارب الدولية: الصين والهند وانعكاساتها على الرياض
تواجهُ الدولُ ذاتُ النموِّ الاقتصادي المتسارِع ضغطًا هائلًا على الطرق نتيجة ارتفاع معدلات ملكية السيارات وزيادة الطلب على التنقُّل، وتُمثّل الصين والهند مثالين بارزين على هذه الحالة. ورغم تبايُن ظروفهما عن مدينة الرياض، فإنَّ استعراض بعض سياساتهما يقدِّم دروسًا قيِّمة يمكن الاستفادة منها مع مراعاة سياق العاصمة السعودية ورؤية 2030.
الصين
في مدنٍ كبرى مثل بيجينغ وشنغهاي، تم تقييدُ امتلاكِ السيارات بنظامٍ صارمٍ لتخصيص اللوحات عبر مزاداتٍ علنية أو سقف للسيارات المُباعة شهريًا. وبينما ساعدت هذه الخطوة في الحد من التكدّس والازدحام، فقد واجهت انتقاداتٍ حول تأثيرها في الحريّة الاقتصادية والإقبال على سوق السيارات. وعلى الجانب الآخر، استثمرت المدن الصينية استثماراتٍ ضخمة في مشاريع القطارات فائقة السرعة وطرق المترو الحديثة لتوفير بديلٍ فعّال.
لجأت بعض المدن الصينية أيضًا إلى “مناطق خالية من السيارات” في أيام محددة لتشجيع المواطنين على استخدام وسائل النقل البديلة. لكن في سياق الرياض، قد لا تكون هذه الخطوة قابلة للتطبيق بسهولة؛ نظرًا لارتفاع درجات الحرارة ومتطلبات التنقُّل عبر مسافاتٍ طويلة. ومع ذلك، يمكن تعزيز سياساتٍ لتقليل استخدام السيارة في بعض المواقع المركزية، شريطة توفير بيئاتٍ مناسبة للمشاة والنقل العام.
الهند
في مدنٍ مثل نيودلهي ومومباي وبنغالور، أدّى الانفجار السكاني والنمو الاقتصادي إلى ضغطٍ شديد على الطرق والمرافق العامة. وردًّا على ذلك، أسست بعض الولايات مشاريع نقلٍ عام ضخمة، أبرزها قطارات المترو، ما ساعد على تخفيف الضغط المروري وإتاحة بديلٍ أقل تكلفة وأسرع للأفراد.
ومع ذلك، ما زالت السياسات المرورية الهندية تتطلّب دعمًا ماليًا وتشريعاتٍ أكثر صرامة لتنظيم قطاع المواصلات الصغيرة (مثل التوك توك والحافلات غير الرسمية)، بما يضمن السلامة وانسيابية الحركة. أما في الرياض، فإنّ وجود إطارٍ تنظيمي واضح وتناغمه مع أهداف رؤية 2030 – الداعمة للنقل المستدام والتقنيات الحديثة – قد يفتح المجال لتجاربٍ مشابهة في الاستثمار بالنقل العام، مع ضبط السوق بما يضمن تكاملًا بين الجهات المختلفة.
تبيِّن هذه الأمثلة أنه لا توجد سياسةٌ واحدةٌ تناسبُ جميع المدن، إنما يُمكن تكييف تجربة الصين والهند لتلائم خصائص الرياض، بما ينسجمُ مع أهداف رؤية 2030 في بناء مدينةٍ مزدهرةٍ وذكية، تحقِّق احتياجات السكان وتضع الأسس لاقتصادٍ متنوّع ومستدام.
خامسًا: الاستدامة وحماية البيئة
لا يقتصرُ الهدفُ من الحدِّ من الازدحامِ المروري على تيسيرِ التنقُّل أو تعزيز الإنتاجية الاقتصادية فحسب، بل يتعدَّاه إلى خفضِ الانبعاثاتِ الضارّة والالتزامِ بمعاييرِ الاستدامة. فالسيارات الخاملة في الازدحام تسهم في تلويث الهواء وإهدار الطاقة، ما ينعكس على صحة السكان واستدامة المدينة على المدى الطويل. إنّ جعل المدن أكثر صداقةً للبيئة يتطلب سياساتٍ متكاملة، تبدأ من التخطيط العمراني الموجَّه نحو وسائل النقل العام والمشي والدراجات، وتمتد إلى تشجيع السيارات الكهربائية والبنية التحتية الخاصة بها.
الخلاصة
إنَّ الازدحام المروري في مدينة الرياض ظاهرةٌ معقَّدةٌ لا يمكن حصر حلولها في إجراءٍ واحدٍ فقط، كتوسيع الطرق أو فرض ضريبةٍ على الوقود. فالمطلوب هو حزمةٌ من السياسات الاقتصادية والإدارية التي ترى القيادة سلعةً ينبغي إدارة الطلب عليها بحكمة. إنَّ خلاصة التجارب العالمية – سواء في المدن المتقدمة أم النامية – تؤكِّد أنّ الحلول الجذرية لمسألة الازدحام تتطلّب إصلاحاتٍ هيكليةً وإرادةً ورؤيةً تنمويةً بعيدة المدى. وقد بدأت الرياض مسيرة التغيير بإنشاء المترو وتطوير الحافلات والبنية الرقمية، مما يمهّد الطريق لإجراءاتٍ أوسع تُحسِّن من رفاهية المواطنين، وتحافظ على استدامة الموارد، وتعزِّز القدرة التنافسية للمدينة على المستويين الإقليمي والعالمي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال