الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أسواق الطاقة العالمية باتت اليوم في مواجهة سباق اقتصادي غير مسبوق، حيث تحاول الدول الكبرى والشركات الرائدة تحقيق توازن دقيق بين تأمين الإمدادات اللازمة للنمو الاقتصادي، وبين السعي نحو مستقبل يعتمد على مصادر طاقة أكثر استدامة. في هذا السياق يبرز الغاز الطبيعي والنفط كعنصرين رئيسيين في هذه المعادلة، وسط منافسة شرسة لقيادة مستقبل الطاقة. ومع ذلك، فإن هذا السباق مليء بالتحديات والتناقضات التي تجعل التحول بعيدا عن الوقود الأحفوري أكثر تعقيدا مما يبدو.
الغاز الطبيعي: وقود التحول أم رهان صعب؟
الغاز الطبيعي يتم الترويج له على أنه حلاً مثالي للتحول نحو مستقبل طاقة أقل ضررا للبيئة. فهو أقل انبعاثا للكربون مقارنة بالنفط والفحم، ويُنظر إليه كوقود “انتقالي” يساعد العالم في تقليل الاعتماد على المصادر الأكثر تلوثا. في السنوات الأخيرة، قفزت الولايات المتحدة إلى صدارة مصدري الغاز الطبيعي المسال، حيث بلغت صادراتها أكثر من 77 مليون طن سنويا. وقد ساهم الغاز الأمريكي في تقليل اعتماد اوروبا على الغاز الروسي خلال أزمة الطاقة التي صاحبت الحرب الروسية-الأوكرانية.
ومع ذلك، فإن الحقيقة أقل وردية مما تبدو! بسبب ان بناء البنية التحتية لتسييل الغاز الطبيعي يتطلب استثمارات ضخمة، إذ تُقدر تكلفة إنشاء محطة تسييل واحدة بنحو 10 مليارات دولار. إضافة إلى ذلك، فإن أسعار الغاز تعاني من تقلبات حادة، حيث ارتفعت في أوروبا بنسبة 300% خلال عام 2022، مما أظهر هشاشة السوق في مواجهة الأزمات الجيوسياسية التي ممكن ان تحدث في أي وقت.
نجد في أوروبا دولة مثل النرويج تقدم للعالم مثالًا يُحتذى به في كيفية إدارة موارد الطاقة لتحقيق استدامة طويلة الأجل. بفضل استراتيجياتها الذكية، فقد أنشأت صندوق الثروة السيادي الأكبر في العالم، الذي تجاوزت قيمته 1.4 تريليون دولار، وذلك باستخدام عوائد النفط لتمويل استثمارات طويلة الأجل ومستدامة.
إلى جانب ذلك، تعتمد النرويج على الطاقة الكهرومائية بنسبة 98% لتوليد الكهرباء، مما جعلها من أقل الدول انبعاثا للكربون في أوروبا. كما أن سياساتها في دعم مبيعات السيارات الكهربائية التي تشكل أكثر من 80% من إجمالي السيارات الجديدة، جعلتها نموذجا رائدا في كيفية استخدام موارد الطاقة لدعم الابتكار الاقتصادي مع حماية البيئة.
معضلة النمو السريع
على النقيض جمهورية الهند رغم انها تعتبر واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، تواجه صعوبات كبيرة في تقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري. رغم استثمارها 44 مليار دولار في مشاريع الطاقة الشمسية منذ عام 2015، لا تزال تعتمد بنسبة 80% على النفط والفحم لتلبية احتياجاتها من الطاقة. لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء، وانعكاسا للارتفاع المستمر في تكلفة مشاريع الطاقة المتجددة، هذه التحديات جعل من الصعب تحقيق تحول حقيقي في مزيج الطاقة.
وعندما نعود بمجهر الطاقة الى أوروبا فهناك المانيا التي اعتقد انها تعاني من انتكاسة مؤقتة، لطالما كانت نموذجا للتحول نحو مصادر الطاقة النظيفة، مؤخرا وجدت نفسها مضطرة في عام 2022 لإعادة تشغيل محطات الفحم لمواجهة نقص الغاز الطبيعي بسبب الأزمة الروسية-الأوكرانية. ورغم التزامها بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2045، فإن هذا القرار أظهر مدى هشاشة نظام الطاقة عندما لا يكون مدعوما بخطط بديلة مستدامة.
النفط: الركيزة الأساسية للاقتصاد العالمي
رغم تصاعد الدعوات العالمية لتقليل الاعتماد على النفط، إلا أن هذا المورد يظل عنصرا محوريا في استقرار الأسواق العالمية. المملكة العربية السعودية من خلال قيادتها لمنظمة أوبك+، أثبتت دورها المحوري في الحفاظ على استقرار الأسعار. في عام 2023 خفضت أوبك+ الإنتاج بنحو 1.6 مليون برميل يوميا، مما ساعد في إبقاء الأسعار عند متوسط سنوي تقريبا 85 دولارا للبرميل.
لكن هذا الاستقرار لا يخلو من تحديات. فالتوازن بين الحفاظ على استقرار الاسواق وتحقيق أهداف التنمية المستدامة يظل معقدا في نظر أي اقتصادي ينظر الى جميع المتغيرات الداخلة والناشئة. ومع ذلك، بدأت المملكة في تنفيذ مشاريع طموحة مثل مشروع “نيوم”، الذي يهدف إلى الاعتماد الكامل على مصادر الطاقة النظيفة، مما يعكس تحولا استراتيجيا نحو تنويع مزيج الطاقة.
سوق الطاقة ليس مجرد سباق بين الدول المنتجة والمستهلكة، بل هو انعكاس لصراع أعمق بين “ما تحتاجه الاقتصادات اليوم وما يتطلبه المستقبل.” النرويج مثال ملهم على إمكانية تحقيق توازن بين النمو والاستدامة، من خلال استثمار عوائد النفط في مشاريع طويلة الأجل تدعم الاقتصاد وتحمي البيئة. فالمردود المادي من النفط عندما يتم توجيهه حسب “وزن الاحتياج والتطوير” فإنه ينتج عنه تحول مباشر من استثمار نفطي الى غير نفطي مستدام يدعم بعائداته الناتج المحلي.
حلول لتحقيق التوازن
لضمان استدامة أسواق الطاقة دون الإضرار بالنمو الاقتصادي، يمكن اتخاذ خطوات عملية، منها:
تحت “مجهر الطاقة” أقول انني عندما أنظر إلى أسواق الطاقة اليوم، أرى صورة معقدة تجمع بين الطموحات الكبيرة والتحديات الواقعية. بالنسبة لي الحل ليس في العودة إلى المزيد من التنقيب عن النفط، فهذا أشبه بمحاولة معالجة أعراض المشكلة دون الاقتراب من جذورها. بدلاً من ذلك، أؤمن أن المستقبل يتطلب استثمارا حقيقيا في تقنيات تفتح آفاقا جديدة، “تقنيات تقلل من تكلفة إنتاج الغاز وتخفض الانبعاثات الكربونية المرتبطة بالنفط.” هذه الخطوة ليست فقط أكثر ذكاء، بل أكثر استدامة ومرونة.
أجد نفسي متأثر بنجاح النرويج كنموذج يُظهر ما يمكن تحقيقه إذا وُظفت الموارد بوعي وحكمة. وفي المقابل، التحديات التي تواجه دول مثل الهند وألمانيا تعكس واقعا يذكرنا بأهمية التخطيط بعيد المدى والتفكير الابتكاري.
القرارات التي تتخذ اليوم. الابتكار، التعاون، والرؤية بعيدة المدى ليست مجرد حلول نظرية، بل مفاتيح لضمان عالم يقدم الطاقة التي نحتاجها، دون أن يتخلى عن الحفاظ على الأرض التي نعيش عليها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال