الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عصر تتسارع فيه الابتكارات ويشتد فيه التنافس الاقتصادي، باتت العقول البشرية المورد الأهم للدول والشركات على حد سواء. لم يعد النفط، الذهب، أو الموارد الطبيعية هي العمود الفقري للاقتصادات، بل حلّت مكانها الكفاءات البشرية القادرة على الابتكار والتكيف مع تغيرات الأسواق العالمية. ومع تصاعد أهمية الاقتصاد المعرفي، تظهر الحاجة المُلِحّة لتطوير استراتيجيات مبتكرة لاستثمار العقول البشرية بدءًا من الفصول الدراسية ووصولًا إلى الأسواق العالمية.
وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2023، فإن البلدان التي تستثمر بشكل مستدام في التعليم والبحث العلمي تحقق معدلات نمو تفوق نظيراتها بنسبة تصل إلى 1.5 ضعف. على سبيل المثال، حققت فنلندا وسنغافورة تقدمًا اقتصاديًا ملحوظًا من خلال برامجها التعليمية المتقدمة، والتي تركز على تنمية المهارات التقنية والإبداعية لدى الطلاب منذ سن مبكرة.
تُظهر البيانات أن الاقتصادات التي تعتمد على المعرفة تمثل اليوم أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. تقود شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “أبل” و”مايكروسوفت” و”أمازون” الأسواق العالمية بقيمة سوقية تتجاوز 6 تريليونات دولار، وهي شركات تعتمد بالأساس على الإبداع والابتكار البشري. يشير ذلك إلى تحول جذري في طبيعة الثروة من الموارد الملموسة إلى الثروة المعرفية.
ومن هنا نشير إلى أن التعليم هو الحجر الأساس في بناء اقتصاد معرفي قوي. لكن التحدي يكمن في كيفية تحويل المناهج التقليدية إلى منصات تُعِدّ الطلاب لسوق العمل العالمي. على سبيل المثال، أدخلت فنلندا نظامًا تعليميًا يركز على المشاريع التعاونية بدلاً من الحفظ، مما أدى إلى تحسين أداء الطلاب في الاختبارات الدولية بنسبة 25% مقارنة بمعدل دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية .
في الولايات المتحدة، يتبنى برنامج STEM (العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) نموذجًا يدفع الطلاب لتطوير حلول مبتكرة للمشكلات الواقعية. هذا النهج ساهم في تخريج آلاف المبتكرين الذين يقودون اليوم شركات ناشئة تحقق مليارات الدولارات، فعلى سبيل المثال، 44% من الشركات الناشئة في وادي السيليكون تم تأسيسها من قبل خريجي برامج .STEM
إحدى أبرز التحديات التي تواجه الاقتصادات العالمية هي سد الفجوة بين المهارات التي يقدمها التعليم وما تتطلبه الأسواق. تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023 كشف أن 40% من الشركات تعاني من نقص في الكفاءات المناسبة، بينما يظل 23% من الشباب حول العالم عاطلين عن العمل بسبب نقص المهارات.
ولمواجهة هذا التحدي، طورت ألمانيا نموذج التعليم المزدوج (Dual Education) ، حيث يدمج الطلاب بين الدراسة الأكاديمية والتدريب العملي في الشركات. هذا النموذج خفّض معدل البطالة بين الشباب إلى أقل من 5%، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ حوالي 15%. بدورها، حققت كوريا الجنوبية قفزة مماثلة من خلال شراكات استراتيجية بين الجامعات والشركات الكبرى مثل سامسونج وLG، مما ساهم في تعزيز تنافسية البلاد عالميًا.
ولا يمكن الحديث عن استثمار العقول البشرية دون التركيز على البحث العلمي. تُظهر إحصائيات اليونسكو أن الدول التي تستثمر أكثر من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث والتطوير تحتل الصدارة في الابتكار. فعلى سبيل المثال في الصين، تنفق الحكومة أكثر من 300 مليار دولار سنويًا على البحث والتطوير، مما أدى إلى تحقيق طفرة في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة. هذا الاستثمار الضخم مكّن الصين من تخطي منافسيها في العديد من المجالات التكنولوجية، وساعد في تقليل اعتمادها على الاستيراد.
أيضًا التكنولوجيا ليست فقط وسيلة، بل هي محرك أساسي لتعزيز قدرات العقول البشرية. الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أصبح أداة رئيسية لتحليل البيانات الكبيرة وتطوير حلول جديدة في مختلف القطاعات. تُظهر تقديرات ماكينزي أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تضيف 13 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030.
فالهند التي تعتبر واحدة من أكبر مزودي التكنولوجيا في العالم، حققت نجاحًا باهرًا بفضل استثمارها في تدريب الشباب على تقنيات الحوسبة السحابية وتطوير البرمجيات. في عام 2023، ساهم قطاع تكنولوجيا المعلومات في الهند بـ 8% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، مقارنة بـ 1.2% فقط قبل عقدين من الزمن.
وفي الختام؛ إن استثمار العقول البشرية ليس خيارًا، بل ضرورة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. في عالم يعتمد أكثر فأكثر على الابتكار، تصبح الدول التي تُحسن استغلال مواردها البشرية قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية. من الفصول الدراسية إلى مراكز البحث العلمي وشركات التكنولوجيا، الطريق إلى النجاح يبدأ بتعليم جيد واستراتيجيات مبتكرة.
إن العالم اليوم أمام سباق جديد ليس على الأرض أو الموارد، بل على العقول. والفائز في هذا السباق هو من يستطيع تحويل الأفكار إلى منتجات، والمعرفة إلى ثروة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال