الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قدّمت حرائق ولاية كاليفورنيا في العام الجديد 2025 مثالًا صارخا على العواقب المدمرة لفكر إداري تبنته العديد من مدارس الإدارة البراقة وشركات الاستشارات الإدارية في الولايات المتحدة خلال العقود الثلاث الماضية، القائم على فلسفة “افعل أكثر بموارد أقل” (Do more with less)، باعتبارها أداة فعالة لتعزيز الكفاءة وتقليل التكاليف وزيادة الإنتاجية، وقد برهن الواقع أن هذا النهج قد يكون كارثيًا عند تطبيقه على العديد من أعمال القطاعات الحيوية.
لم تعد إدارة المطافئ في كاليفورنيا قادرة على التكيف مع الظروف البيئية المستجدة، كالأزمات أو الطلبات غير المتوقعة، نتيجة تقليص مواردها بشكل مفرط بسبب تطبيق مبدأ “افعل أكثر بموارد أقل” على مدى سنوات، مما قلل من تنوعها التنظيمي وقدرتها على التجديد والاستجابة للتغيرات، وحرائق كاليفورنيا الأخيرة – التي لامست خسائرها حوالي 200 مليار دولار ووفاة 24 وفقدان 13 آخرين وما بين اخلاء والتحضير لإجلاء ما يقارب 300 ألف شخص من منازلهم – ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من الكوارث التي أظهرت الآثار السلبية لهذه الفلسفة العمياء.
بسبب تقليص ميزانية دائرة الإطفاء في كالفورنيا، اندلعت سلسلة من الحرائق المدمرة فيها عام 2018، كنتيجة حتمية لخفض أعداد رجال الإطفاء بنسبة 25%، مما أضعف قدرتها على التعامل مع الحرائق بشكل فعال، وقد أكد تقرير صادر عن المعهد الوطني لأبحاث الحرائق، بأن تقليص الموارد البشرية والمادية كان عاملا مفصليا في قصور الفعالية، مما أدى – وفقًا لدراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا في بيركلي عام 2019 – إلى أن 60% من محطات الإطفاء في الولاية كانت تعمل بأقل من نصف طاقتها خلال موسم الحرائق، لتبلغ حصيلة هذه الكارثة 85 قتيلاً، وخسائر مادية تجاوزت 16 مليار دولار، فضلًا عن تهجير آلاف السكان من منازلهم.
هذا لا ينطبق فقط على دوائر الإطفاء، ففي إدارة الأزمات الوطنية، كما حصل عندما ضرب إعصار “كاترينا” ولاية لويزيانا عام 2005، كان لضعف استجابة إدارة الطوارئ الفيدرالية – نتيجة لتقليص ميزانيتها – آثارا عميقة على الولاية وسكانها، وفي قطاع الرعاية الصحية، أظهرت دراسة أجرتها جامعة ميشيغان عام 2021 أن تقليص عدد الممرضين والمعدات الطبية تحت شعار “افعل أكثر بموارد أقل” أدى إلى زيادة معدل الوفيات في المستشفيات الأمريكية بنسبة 13%.
أيضا، في مجال البنية التحتية، وأشهر مثال هو انهيار جسر “آي-35 دبليو” الفولاذي في ولاية مينيسوتا عام 2007 كنتيجة مباشرة لتأجيل أعمال الصيانة بسبب تقليص الإنفاق الحكومي، مما أسفر عن وفاة 13 شخصًا وإصابة 145 آخرين، والقطاع الخاص ليس بمنأى عن مأساة تطبيق هذه الفلسفة، فحادثة انفجار منصة النفط التابعة لشركة “بريتش بتروليوم” في خليج المكسيك عام 2010، كان نتاجه وفاة 11 عاملا، وتسرب 4.9 مليون برميل من النفط وأضرار بيئية كلفت 65 مليار دولار لمعالجتها، وشركة “إنرون” عام 2001 – ولعدة أسباب أهمها هذا المبدأ – وصلت لإشهار افلاسها بعد تسريح 20 ألف موظف وتكبدها لخسائر مالية قدرت بحوالي 74 مليار دولار.
تجاهل تأسيس نظم إدارية مستدامة وفعالة تحت ذريعة تحقيق المزيد بأقل الموارد سيؤدي حتماً إلى خسائر اقتصادية جسيمة على المدى الطويل، فالاستنزاف المستمر للموارد يضعف مرونة المؤسسات ويجعلها أكثر عرضة للفشل عند مواجهة أي أزمات أو تقلبات، ولا مانع من تعزيز الكفاءة التشغيلية لكن دون الإضرار بالجاهزية والمرونة في مواجهة الأزمات، وإلا فإن المستقبل سيحمل لنا المزيد من الدروس الإنسانية والاقتصادية القاسية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال