الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تردّدت في واشنطن مؤخرًا أحاديث تشير إلى أنّ صنّاع القرار يدرسون مسألة إضافة العملة الرقمية (بيتكوين) إلى الاحتياطيات الرسمية للولايات المتحدة الاميركية. ستكون هذه خطوة تاريخية بالنسبة لاقتصاد عالمي هو الأكبر، إذ تحمل في طيّاتها اعترافًا بعملة لا مركزية ظلت لوقت طويل نقيضًا للنقود السيادية التقليدية. ورغم أن المسألة ما تزال في نطاق التكهن، إلا أنّ مجرد احتمالية حدوثها تسلّط الضوء على تغيير في الرؤية التنظيمية والاستراتيجية تجاه العملات الرقمية. ومن منظور “نظرية الألعاب”، إذا بادرت الولايات المتحدة بدمج البيتكوين رسميًا ضمن بنيتها المالية، فقد ينعكس ذلك على التوازن النقدي العالمي، مع آثار بعيدة المدى على الأسواق ومستقبل الدولار.
تحوّل في الاتجاه
تصدّر الدولار الأمريكي منذ عقود قائمة الأصول الاحتياطية والمعاملات الدولية، معتمدًا على شبكة واسعة واعتياد الأسواق عليه. لكن تبنّي البيتكوين ـ ولو جزئيًا ـ سيعني أنّ مؤسسات الحكم في واشنطن لم تعد تنظر إلى العملات الرقمية بوصفها أداة للمضاربة أو موضة مؤقتة، بل تراها وسيلة تخزين للقيمة. سيلقى هذا التوجّه صدى يتجاوز مجتمع العملات الرقمية، وقد يحفّز تدفّق رؤوس أموال مؤسسية وأفراد نحو البيتكوين.
وعلى الجانب الآخر، هناك مخاطرة بتقويض الأساس الذي يستند إليه تفوّق الدولار. فوزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي يعتمدان على أدوات متمركزة حول الدولار، مثل عمليات السوق المفتوحة والمقايضات النقدية. وربما تضعف فاعلية هذه الأدوات إذا أصبح البيتكوين بديلًا أو موازيًا للدولار في الاحتياطيات.
مبررات اقتصادية كلية
من منظور الاقتصاد الكلّي، قد توفّر حيازة البيتكوين في الاحتياطيات وسيلة تحوّط ضد التضخّم أو التوترات الجيوسياسية، شبيهة بما تقوم به البنوك المركزية عند الاحتفاظ بالذهب أو الدولار. فالمحدوديّة واللامركزية في إصدار البيتكوين قد تمنح هذه العملة خصائص نادرة تختلف عن العملات الورقية الخاضعة للتوسّع النقدي. وفي ظرف يفقد فيه العالم الثقة في العملات الورقية، قد تكون البيتكوين خيارًا لتنوّع أصول الدولة.
لكن هذه الخطوة لا تخلو من خطر التقلّبات الحادة. إذ تتميّز البيتكوين بتقلّبات سعرية تفوق بكثير تقلّبات العملات السيادية أو الذهب نفسه. وقد تشكّل هذه التذبذبات معضلة لسياسات الاحتياط الفيدرالي النقدية، حيث ترتكز على أصول مستقرّة نسبيًا. كما أنّ اعتماد عملة رقمية بلا مصدر رسمي ولا غطاء جوهري يثير تساؤلات حول العلاقة بين البنك المركزي والنقود التي يسيطر عليها عادةً.
الخطة التنظيمية
بإمكان حكومة الولايات المتحدة التحكّم في مسار العملات الرقمية عبر عدة أدوات:
أولًا، وضوح التعريفات: تحديد ما إذا كانت العملات الرقمية تمثّل أوراقًا مالية أو سلعًا أو عملات، مما يسهّل دمج البيتكوين في الأسواق بشكل منظّم.
ثانيًا، هيكلة الضرائب وإجراءات البلاغات: إجراءات ضريبية واضحة على المعاملات الرقمية، مع أنظمة إبلاغ صارمة للحد من الاحتيال.
ثالثًا، ابتكار نسخة رقمية من الدولار: قد يتعايش إصدار رقمي رسمي من العملة (نسخة رقمية للدولار) مع البيتكوين، مستفيدًا من تقنية البلوكتشين مع الحفاظ على الرقابة الحكومية.
من شأن استراتيجية شاملة أن تشجّع التبنّي الواسع، مما يعزّز شرعية أسواق العملات الرقمية ويجعل البيتكوين أكثر جاذبية لحكومات ومستثمرين آخرين. وإذا رسمت الولايات المتحدة الطريق، فقد تلحق بها دول أخرى لئلا تتخلّف عن السباق التقني، ما يسرّع عالمية استخدام العملات الرقمية.
نظرة من زاوية نظرية الألعاب
في لعبة متعددة الأطراف لاختيار العملات السيادية، من يتصدّر السبق إلى تبنّي البيتكوين كاحتياطي قد يجني فوائد تتمثّل في:
١- سبق المبادرة: شراء البيتكوين بأسعار ربما تكون أقل مما قد تصل إليه مستقبلًا، وتأمين مركز استراتيجي في النظام المالي الجديد.
٢- القدرة على وضع القواعد: بفضل التبنّي المبكر، قد تضع الولايات المتحدة المعايير العالمية وتشكّل ملامح مستقبل العملات الرقمية.
ولكن هناك مخاطر موازية:
١- تقليص هيبة الدولار: حين تعترف واشنطن بالبيتكوين، تعترف ضمنيًا بأن بديلًا آخر يملك “قيمة” تخزينية، ما قد يُضعف النظرة الاستثنائية للدولار.
٢- استراتيجيات مضادة: قد تسعى دول أخرى، وبخاصة تلك غير الراضية عن هيمنة الولايات المتحدة، إلى تقوية عملاتها الرقمية أو الاندماج بشكل أكبر في البيتكوين لتقليص اعتمادها على الدولار.
وإذا أدّى هذا التوجه إلى نشأة توازن عالمي جديد تتنافس فيه عدة عملات رقمية على وضع “العملة الاحتياطية”، فإن الولايات المتحدة تكون قد “انشقت” عن اللعبة التي كانت فيها مهيمنة، مما يسرّع تشكّل نظام نقدي متعدّد الأقطاب.
التأثير على الدولار
على المدى القصير، قد ينظر المستثمرون إلى ضم البيتكوين جزئيًا ضمن احتياطيات الولايات المتحدة على أنه دليل على تجديد الدور الريادي الأميركي في الابتكار المالي، ممّا قد يقلّل من التهديد الذي تشكّله العملات الرقمية على المنظومة التقليدية. لكن على المدى الطويل، قد يؤدي انتشار البيتكوين بشكل أوسع إلى تآكل المزايا التي يتمتّع بها الدولار، مثل الاستفادة من إصدار العملة (والذي يُعرف بالسيادة النقدية)، وانخفاض تكاليف الاقتراض، والتحكم في المعاملات العالمية.
في سيناريو متطرّف، إذا مال الدائنون والشركاء التجاريون إلى تفضيل البيتكوين على الدولار، فقد تفقد الولايات المتحدة نفوذها على سيولة الأسواق العالمية، كما قد تنخفض فعالية العقوبات المالية، نظرًا لأن معاملات البيتكوين لا تعتمد على الأنظمة المصرفية التقليدية.
مفاضلات السياسة النقدية
القدرة على إدارة أسعار الفائدة وشراء الأصول والتدخل لحماية الاقتصاد في الأزمات ترتبط جميعها بقوة الطلب على الدولار كعملة احتياطية مستقرة. وإذا وضعت الدولة البيتكوين ضمن احتياطيات مصرفها المركزي، فسيكون عليها الموازنة بين هذه الأهداف وبين قبولها لأصل متقلّب بشدة. هناك من يرى أنّ الاحتفاظ بكمية محدودة من البيتكوين خارج نطاق السياسة النقدية قد يحفظ استقرار الأدوات النقدية، فيما يستخدم الأصل الرقمي كاحتياطي استراتيجي في ظروف معيّنة.
ردود فعل السوق
قد تقرأ المؤسسات المالية والشركات اندماج البيتكوين في احتياطيات الولايات المتحدة على أنه ضوء أخضر للمزيد من التوسع في مشاريع العملات الرقمية. وقد نشهد طفرة في المنتجات الاستثمارية ذات الصلة، من صناديق متداولة في البورصة إلى عقود مشتقات، بل وحتى خدمات ودائع شبيهة بحسابات بنكية. ومع ازدياد سيولة البيتكوين وانتشارها، قد تنخفض التقلّبات تدريجيًا، مما يرسّخ قيمتها الاحتياطية.
ومع ذلك، فإن الاندماج الرسمي للبيتكوين يستدعي رقابة تنظيمية أشد صرامة. والتصوّر الشائع عن العملات الرقمية من حيث حرية التعامل والاستغناء عن الرقابة قد يصطدم بيدٍ حكومية ثقيلة. وسيشكل تحقيق التوازن بين تطلعات “المثاليين” في عالم العملات الرقمية ورغبات المستثمرين والتزامات الجهات الرسمية تحدّيًا معقّدًا.
الخاتمة
إذا أقدمت الولايات المتحدة على خطوة غير مسبوقة لإدراج البيتكوين في احتياطياتها، فإنها تؤرّخ لمرحلة مفصلية في تاريخ النقد. فمن منظور الاقتصاد الكلّي ونظرية الألعاب، قد يؤدي هذا القرار إلى إطلاق سباق عالمي جديد، تتنافس فيه الدول بين مزايا “من يتحرك أولًا” وخطر زعزعة عملتها السيادية. ومع إطار تنظيمي متين، قد يبقى للولايات المتحدة دور ريادي في صياغة مستقبلٍ تتعايش فيه البيتكوين مع الدولار. لكن المخاطر ليست هينة: فقد يفضي تبنّي البيتكوين إلى تسريع توجه الدول والمستثمرين نحو تنويع احتياطياتهم بعيدًا عن المنظومة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة حاليًا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال