الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تثير سوق الإيجارات في الرياض الكثير من الجدل؛ فبالرغم من الإشارات التي تدلّ على ارتفاع ملحوظ في الأسعار، تظلّ بعض العقارات شاغرة لفترات طويلة، كما يمكن ملاحظة وفرة المعروض من الوحدات التأجيرية عبر تطبيقات العقارات. يدفعنا هذا إلى التساؤل: هل هذه الأسعار تعكس حقًا توازنًا طبيعيًا بين العرض والطلب، أم أن هناك عوامل أخرى تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار؟ في هذا المقال، نحاول تشخيص الواقع وتسليط الضوء على جملة من الأسباب المحتملة وراء ذلك، من دون الجزم بواحدٍ منها؛ بل نسعى إلى توسيع الأفق نحو بعض الأسباب التي قد لا تبدو ظاهرة للعيان.
عدم الاستقرار في السوق العقاري
إذا افترضنا وجود حالة من عدم الاستقرار في السوق العقاري السكني، فإنّ الأدبيات الاقتصادية تفيد بأنّ الأسعار ترتفع أو تنخفض حتى الوصول إلى نقطة توازن بين العرض والطلب، وهو ما يُعرف بمفهوم “نفاد السلعة أو الخدمة”. ويختلف السوق العقاري تحديدًا عن غيره من الأسواق بسبب وجود ما يُسمّى عوائق البحث إذ يحتاج المستأجر إلى البحث والمقارنة، كما يحتاج المالك إلى وقتٍ للعثور على المستأجر الملائم. ولكن حين تطول فترة شغور بعض الوحدات دون أن تتغيّر أسعارها، فإنّ ذلك قد يدلّ على عدم تحقيق التوازن المنشود، ما يطرح تساؤلًا حول كيفية نشوء هذه الحالة.
الفجوة بين توقعات الملاك والمستأجرين
يُعدّ اختلاف التوقعات أحد أبرز الأسباب المحتملة لعدم توازن سوق الإيجارات. فقد يتمسّك الملاك بأسعار مرتفعة استنادًا إلى تقييمات سابقة للعائد على الاستثمار أو آمال بتحقيق أرباح مستقبلية، في حين يبحث المستأجرون عن أسعار أكثر ملاءمة لدخولهم وقدراتهم الشرائية، متأثرين أيضًا بتفضيلاتهم الاستهلاكية الجديدة.
هذه الفجوة قد تفسّر ظاهرة بقاء بعض الوحدات شاغرة لفترات طويلة، إذ لا يجد المالك حافزًا كافيًا لخفض السعر، ولا يجد المستأجر مبرّرًا لقبول سعر مرتفع. ويُعدّ فهم العوامل التي تزيد هذه الفجوة أو تقلّصها خطوة محورية في تشخيص أي خلل محتمل في السوق.
أثر قيود الإيجار والتوقعات العقلانية
يرتبط الحديث عن فرض سقوف للإيجار أو وضع تشريعات تنظّم زياداته بمفهوم التوقعات العقلانية؛ ففي حال ترقب الملاك لتدخّل الجهات الرسمية لتنظيم الأسعار، فقد يسارعون إلى رفعها استباقيًا، خشية أن تتقلّص أرباحهم مستقبلًا. وفي الجهة المقابلة، قد يتردّد المستأجرون في اتخاذ قرار الاستئجار أو يفضّلون البحث عن بدائل أرخص، ما يوسّع فجوة عدم التوازن.
وبذلك، يتأثر سلوك طرفَي السوق—الملاك والمستأجرين—بما يترقّبونه من سياسات حكومية وقيود مُحتملة، فيتولّد لديهم ميل إما للتعجّل في رفع الإيجارات أو الإحجام عن الاستئجار، فتزداد فجوة التوقعات بين العرض والطلب.
الصدمة الاستهلاكية وتأثيرها على الإيجارات
شهدت السعودية في السنوات القليلة الماضية ارتفاعًا في الإنفاق الاستهلاكي، خصوصًا في قطاعات الترفيه، وذلك بفضل برامج ومبادرات “رؤية 2030” وإنشاء هيئة الترفيه، ما أنتج طلبًا متزايدًا على أنشطة الترفيه والمطاعم والسياحة الداخلية. وقد تؤدي هذه الصدمة الاستهلاكية إلى تأثيرات متفاوتة في قطاع الإيجار:
من جهة الملاك: قد يلجأ بعضهم إلى رفع الإيجارات لضمان مستوى معيشي معيّن أو لتغطية أنماط إنفاق جديدة ترتبط بالنمط الترفيهي المتزايد.
من جهة المستأجرين: يسعى العديد منهم إلى تقليص النفقات الثابتة، وعلى رأسها الإيجار؛ للحفاظ على هامش إنفاق يسمح بالاستفادة من أنشطة الترفيه المتاحة.
ينجم عن ذلك تزايد الضغط من الملاك نحو رفع الأسعار، يقابله توجّه المستأجرين للبحث عن وحدات بأسعار أقل، ما يساهم في اتساع الفجوة بين الجانبين.
الفجوة الديموغرافية وتأثيرها على الملكية والتسعير
تلعب العوامل الديموغرافية دورًا رئيسيًا في رسم معالم سوق العقارات؛ إذ قد يشكّل الشباب النسبة الكبرى من المستأجرين، بينما تمتلك الأجيال الأكبر سنًّا الحصة الأوسع من العقارات. ينتج عن هذا التباين في الأعمار رؤى استثمارية متباينة:
المُلّاك الأكبر سنًا: غالبًا ما يعتبرون العقار مخزنًا للقيمة لا يهمهم تأجيره بسعر منخفض، فقد يفّضلون تركه شاغرًا على خفض الإيجار.
الشباب المستأجرون: يمتازون بمرونة أكبر وقدرة على التنقّل إلى أحياء أو أماكن أخرى في حال لم يجدوا السعر المناسب.
هكذا تنشأ فجوة في سوق الإيجارات: عقارات لا تجد من يستأجرها بالسعر المطلوب، في حين يسعى جزء كبير من المستأجرين إلى أسعار أكثر تناسبية.
العقار بين الاستثمار والتخزين
يرى بعض الملاك في العقار أصلًا استثماريًا طويل الأجل أكثر من كونه مصدر دخل فوري من الإيجار؛ إذ يهدفون إلى حمايته من التضخم أو ترقّب زيادة قيمته السوقية مستقبلًا. بالنسبة لهذه الفئة، لا يشكّل بقاء العقار شاغرًا مشكلةً كبيرةً ما دامت العوائد المتوقعة على المدى الطويل تُبرّر الإبقاء على السعر مرتفعًا. ويساهم هذا النهج في تقليص حجم الوحدات المتاحة بأسعار تناسب معظم المستأجرين، ما يرفع مستويات الإيجارات عمومًا.
نحو فهم أعمق لحالة السوق
إذا كان الهدف هو تعزيز كفاءة سوق الإيجار في الرياض، بحيث تصبح الأسعار أكثر تعبيرًا عن واقع العرض والطلب، فمن الضروري اتخاذ خطوات عملية، أبرزها:
جمع بيانات دقيقة حول نسب الإشغال، ومستويات الدخل، والقدرة الشرائية، وحجم المعروض السكني.
إجراء دراسات ميدانية تشمل الملاك والمستأجرين؛ لفهم التوقعات والمخاوف وأنماط اتخاذ القرار لدى الطرفين.
تقييم أثر السياسات الحكومية واللوائح المتعلقة بالإيجارات، سواء تلك المُفعّلة حاليًا أو التي يجري مناقشتها في الأوساط التشريعية.
إن تحليل هذه المعطيات تحليلاً شموليًا يُساعد صُنّاع القرار والمستثمرين على رسم سياسات أكثر توافقًا مع متطلبات السوق، ودفعه باتجاه توازن أفضل.
في الختام، يظلّ سوق الإيجارات في الرياض متأثرًا بعوامل متعددة—اقتصادية واجتماعية وثقافية وديموغرافية—تتشابك لتنتج حالة من التفاوت بين ارتفاع الأسعار ووفرة الوحدات الشاغرة. وقد تكون المرحلة الراهنة جزءًا من دورة أطول في مسيرة تطور السوق العقاري في المملكة. إنّ فهم هذه التحولات بعمق، والعمل على تحليلها واستيعابها بشكل أفضل، هو الخطوة الأولى نحو بلورة حلول مستدامة وعادلة لكل من الملاك والمستأجرين، على حد سواء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال