الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهدت الدولة السعودية الأولى تطورات تشريعية بارزة استندت إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، حيث كان الفقه الحنبلي أساسًا للأحكام، مع إتاحة الاجتهاد لتحقيق المصلحة العامة. تم تنظيم القضاء من خلال تعيين القضاة من قبل الإمام أو الأمراء حيث كان القضاء من أبرز مظاهر السلطة والدولة وكانوا يفصلون في القضايا وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، بما في ذلك المعاملات المدنية، والأحوال الشخصية، والحدود، والتعزيرات.
لم يكن هناك جهاز قضائي مركزي، بل كان القضاء يتبع نظامًا لا مركزيًا، حيث يباشر كل قاضٍ عمله ضمن نطاق سلطته في المدن والقرى. كما تولت الحسبة الرقابة على الأسواق والسلوك العام، حيث أشرف المحتسبون على ضبط الأسعار، ومنع الغش، ومراقبة الامتثال للأحكام الشرعية في المعاملات التجارية، بالإضافة إلى الإشراف على الالتزام بالأخلاق العامة. وفي المجال الجنائي، طُبقت الحدود الشرعية مثل حد السرقة، وحد الزنا، وحد شرب الخمر، وفقًا للضوابط الشرعية، فيما كانت التعزيرات تُطبق على القضايا التي لا تشمل حدودًا، مع مراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية لكل قضية. كان الهدف من هذه التشريعات تحقيق الأمن والاستقرار وإرساء العدل في المجتمع. أما في الشؤون المالية، فقد تم تحريم الربا بشكل صارم، حيث كان يُنظر إليه على أنه مفسد للاقتصاد ومخالف للشريعة الإسلامية، كما نُظمت الزكاة وأُنشئت إدارات لجمعها وتوزيعها على المستحقين لضمان التكافل الاجتماعي، فيما لعبت الأوقاف دورًا رئيسيًا في دعم المؤسسات التعليمية، والمساجد، والخدمات الاجتماعية.
وبعد انتهاء الدولة السعودية الأولى عام 1818م، أعاد الإمام تركي بن عبد الله تأسيس الدولة السعودية الثانية عام 1824م، مستندًا إلى النهج ذاته في اعتماد الشريعة الإسلامية، مع بعض التطورات التشريعية التي أكدت على دور العلماء واستقلالية القضاء. وأدى العلماء دورًا رئيسيًا في التشريع، حيث كانوا مستشارين شرعيين للأئمة، مع عقد مجالس شورى للنظر في القضايا الشرعية والإدارية، مما عزز دور الفقهاء في التشريع وأتاح مرونة في الاجتهاد بما يحقق المصلحة العامة. وتميز النظام القضائي باستقلالية القضاة، حيث كانوا يفصلون في النزاعات بعيدًا عن التدخلات السياسية، مع استمرارية اعتماد الفقه الحنبلي كأساس للتشريع. كما استمرت الحسبة بالإشراف على الأسواق، وضبط الأسعار، ومنع الغش، ومراقبة الالتزام بالأحكام الشرعية، مع مراقبة الالتزام بالأخلاق العامة وضبط الأمن في الأسواق والتجمعات العامة. وفي المجال الجنائي، طُبقت الحدود الشرعية بنفس النهج المتبع في الدولة السعودية الأولى، فيما أصبح تطبيق التعزيرات أكثر تنظيمًا، حيث كان يُنظر إلى كل قضية على حدة، مع مراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية. أما على المستوى المالي، فقد تم تنظيم جباية الزكاة بشكل أكثر كفاءة، وأصبحت هناك إدارات تشرف على جمعها وتوزيعها، مع استمرار تحريم الربا، والتشديد على منع المعاملات الربوية في الأسواق. كما ظلت الأوقاف تلعب دورًا رئيسيًا في تمويل الأنشطة الدينية والتعليمية، مما ساعد على استمرار العملية التعليمية رغم التحديات السياسية.
أعاد الملك عبدالعزيز تأسيس الدولة عام 1902م وقاد عملية وحدة كبرى، واستمرارًا للمسيرة التشريعية منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى، ومع إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932م، وضع الملك عبد العزيز آل سعود الأسس القوية لدولة حديثة قائمة على الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الأساسي للتشريع، مع مراعاة التطوير والتطوير بما يخدم مصالح الدولة والمجتمع. وقد أدرك الملك عبد العزيز مبكرًا أهمية وجود أنظمة قانونية واضحة تنظم مختلف جوانب الحياة في الدولة الناشئة، حيث كانت الحاجة ملحة إلى وضع تشريعات تحدد أطر العمل الإداري والاقتصادي والقضائي. وانطلاقًا من الشريعة الإسلامية، التي تعد أساس الحكم، وجاءت الأنظمة التي أصدرها لتعزز التنظيم القضائي، وتحكم المعاملات المالية، وتضع قواعد راسخة للإدارة العامة، وهو ما ساهم في تطوير بنية الدولة ومؤسساتها وتعزيز الاستقرار وترسيخ العدالة وتحقيق التنمية المستدامة.
وفي هذا السياق، تم إصدار عدد من الأنظمة التي شكلت اللبنة الأولى لمنظومة التشريع في المملكة، ومن أبرزها التعليمات الأساسية لنظام الحكم، ومن ضمنها القسم الرابع الخاص بالمجالس، ومنه ما يتعلق بمجلس الشورى حيث تمت تسميته بمجلس الشورى بدلاً من الاسم السابق المجلس الأهلي، وقد صدر لاحقاً – بعد إدخال التعديلات – نظام معدل للمجلس تحت اسم: (( النظام الداخلي لمجلس الشورى))، ونظام المحاكم الشرعية الذي صدر عام 1928م (1346هـ) ووضع إطارًا موحدًا للقضاء في المملكة، حيث حدد اختصاصات المحاكم، وهيكلها، وآليات عملها، مستندًا إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، مما أسهم في تعزيز العدالة والفصل في النزاعات بمرجعية واضحة. كما صدر نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام 1926م (1345هـ) لتشجيع الالتزام بالأخلاق الإسلامية وتعزيز القيم الدينية في المجتمع، من خلال تنظيم أعمال الحسبة ومراقبة السلوكيات وفق تعاليم الإسلام. وفي المجال الاقتصادي، جاء نظام النقد السعودي عام 1935م (1354هـ) ليؤسس لسياسة نقدية مستقرة، حيث تم إصدار أول عملة رسمية سعودية (الريال السعودي)، مما عزز الاستقرار المالي والتجاري في البلاد. ولتنظيم الملكيات العقارية وضبط التعاملات في هذا القطاع، صدر نظام تسجيل العقارات والأراضي، الذي ساهم في توثيق الملكيات وتعزيز الأمان القانوني في المعاملات العقارية. كما شمل التطوير الجانب التجاري، حيث تم إصدار النظام التجاري لتنظيم المعاملات التجارية، ووضع إطار قانوني لأنشطة التجارة والاستثمار، مما ساعد في دعم بيئة الأعمال وتعزيز التنمية الاقتصادية.
ولم تقتصر جهود الملك عبد العزيز على إصدار هذه الأنظمة فحسب، بل حرص على تطويرها وفقًا لاحتياجات المملكة، وهو النهج الذي استمر من بعده، حيث شكلت هذه الأنظمة أساسًا متينًا لمنظومة التشريع في المملكة، واستمر العمل على تطويرها لتواكب تطورات العصر، مع الحفاظ على الأسس المستمدة من الشريعة الإسلامية. أسهمت هذه التشريعات في تعزيز مكانة المملكة إقليميًا ودوليًا، حيث أظهرت التزام الدولة بالحوكمة الرشيدة، ودعمت الاستقرار السياسي والاقتصادي. كما أن هذه الخطوات ساعدت في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، ووضع الأسس لنظام قضائي متكامل يدعم حقوق الأفراد والمجتمع، مما عزز مكانة المملكة كمثال للدولة التي تجمع بين التقاليد الراسخة والتطوير المستمر.
ومع تولي الملك سعود بن عبد العزيز الحكم عام 1953م، استمرت عملية بناء الدولة من خلال تعزيز الأنظمة القائمة وإصدار تشريعات جديدة لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بما يتماشى مع التطورات التي شهدتها المملكة والتوسع المتزايد في مؤسساتها. وقد شهدت هذه المرحلة تركيزًا خاصًا على تطوير الأنظمة المالية والعمالية، إلى جانب إصدار تشريعات تعزز دور الحكومة في إدارة الموارد والتنمية، مما أسهم في ترسيخ البنية الإدارية والتنظيمية للدولة ودعم مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن أبرز التطورات التشريعية في عهد الملك سعود تأسيس مجلس الوزراء عام 1953م، الذي كان بمثابة نقلة نوعية في تنظيم الإدارة الحكومية، حيث أصبح المجلس الجهة العليا لصنع القرار في المملكة، وتم إصدار نظامه الأساسي لتنظيم آليات العمل الحكومي وضبط العلاقة بين الوزارات والجهات التنفيذية. وفي إطار تطوير السياسات النقدية، تم تطوير نظام النقد السعودي لتعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي، ودعم التجارة الداخلية والخارجية من خلال تقوية العملة الوطنية وتطوير آليات التعاملات المصرفية.
كما حظي قطاع العمل والعمال باهتمام خاص، حيث تم إصدار نظام العمل والعمال، الذي وفر إطارًا قانونيًا ينظم العلاقة بين أصحاب العمل والموظفين، ويحدد حقوق وواجبات الطرفين، بما يسهم في تعزيز بيئة العمل وتحقيق الاستقرار الوظيفي. ولحماية العاملين وضمان مستقبلهم، تم إصدار نظام التأمينات الاجتماعية، الذي وفر تغطية تأمينية للعاملين في القطاعين العام والخاص، مما عزز الأمن الاجتماعي ورفع مستوى المعيشة للعاملين وأسرهم.
وفي مجال الاقتصاد والاستثمار، صدرت أنظمة تنظم الضرائب والجمارك والاستثمار، حيث هدفت هذه الأنظمة إلى وضع إطار قانوني لتنظيم الإيرادات الحكومية، وتحفيز بيئة الأعمال من خلال تقديم حوافز استثمارية وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، مما ساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل الوطني. كما شهدت هذه الفترة تطوير التشريعات المتعلقة بالتجارة، والتي أسهمت في دعم الأنشطة الاقتصادية وتوسيع شبكة العلاقات التجارية للمملكة إقليميًا ودوليًا.
وقد كان لهذه التطورات القانونية والإدارية أثر كبير في تعزيز مسيرة الدولة السعودية الحديثة، حيث شكلت الأسس التي بنيت عليها أنظمة المملكة في العقود اللاحقة، وأسهمت في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مما ساعد في ترسيخ مكانة المملكة كدولة ذات نظام مؤسسي متطور قادر على مواكبة متغيرات العصر.
وفي عهد الملك فيصل بن عبد العزيز، شهدت المملكة العربية السعودية تطورًا تشريعيًا ملحوظًا، حيث اتجهت الدولة إلى تطوير الأنظمة القائمة وإصدار تشريعات جديدة تنظم مختلف القطاعات، مع التركيز على الإصلاحات الاقتصادية والإعلامية والاجتماعية، بما يواكب التطورات الداخلية والخارجية التي شهدتها البلاد. وقد جاءت هذه الإصلاحات في إطار رؤية الملك فيصل لتطوير مؤسسات الدولة وتعزيز دورها في التنمية، مع الحفاظ على القيم الإسلامية التي ترتكز عليها المملكة.
ومن أبرز الأنظمة التي صدرت في عهد الملك فيصل نظام مجلس الشورى، الذي جاء بهدف تعزيز المشاركة في صنع القرار وتطوير العملية التشريعية، حيث وضع هذا النظام الإطار التنظيمي لعمل المجلس، وحدد اختصاصاته في مناقشة الأنظمة واللوائح، وإبداء الرأي في القضايا الوطنية، مما أسهم في تعزيز الحوكمة والتخطيط الاستراتيجي للدولة. وفي مجال الإعلام، صدر نظام المطبوعات والنشر، الذي وضع الأسس التنظيمية لقطاع الإعلام والصحافة، وساهم في تنظيم إصدار الصحف والمجلات، إلى جانب تعزيز حرية التعبير ضمن الأطر الشرعية، مما أدى إلى ازدهار النشاط الإعلامي في المملكة، وظهور مؤسسات إعلامية لعبت دورًا مهمًا في نقل صورة المملكة داخليًا وخارجيًا.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد شهدت هذه المرحلة نقلة نوعية من خلال إصدار نظام البنوك والمؤسسات المالية، الذي كان له دور أساسي في تنظيم القطاع المصرفي، وضبط عمل البنوك، وتعزيز دور مؤسسة النقد العربي السعودي في الرقابة والإشراف على الأنشطة المصرفية، مما ساعد في تقوية النظام المالي ودعم الاستثمارات. كما تم إصدار نظام مكافحة الغش التجاري، الذي جاء لحماية المستهلكين وضبط الأسواق من خلال فرض عقوبات على الممارسات التجارية غير المشروعة، مثل التلاعب بالأسعار، والغش في السلع والمنتجات، وهو ما أسهم في تحقيق بيئة تجارية أكثر نزاهة واستقرارًا.
وفي إطار تعزيز الحماية الاجتماعية، صدر نظام التأمين ضد البطالة، الذي وفر مظلة أمان للعاملين الذين فقدوا وظائفهم لظروف خارجة عن إرادتهم، حيث ساعد في دعم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، من خلال تقديم إعانات مالية مؤقتة للمتعطلين عن العمل، إلى حين إيجاد فرص عمل بديلة، مما يعكس توجه المملكة في هذه المرحلة نحو تبني سياسات اجتماعية أكثر شمولية.
وقد كان لهذه الأنظمة دور محوري في تعزيز التنمية الشاملة، حيث أسهمت في تطوير البنية التشريعية للمملكة، ودعمت استقرار الاقتصاد، ورسخت مبدأ العدالة الاجتماعية، مما ساعد في تحقيق رؤية الملك فيصل في بناء دولة حديثة تتمتع بمؤسسات قوية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية والوطنية.
ويعد عهد الملك فهد بن عبد العزيز من الفترات التي شهدت نقلة نوعية في التشريع السعودي، حيث تم إصدار العديد من الأنظمة التي أرست دعائم الدولة الحديثة، وأسهمت في تطوير مختلف القطاعات، بما يتماشى مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها المملكة. وتميزت هذه المرحلة بإعادة هيكلة الإطار القانوني والتنظيمي للدولة، بما يعزز الحوكمة الرشيدة ويحقق التنمية المستدامة، من خلال تطوير الأنظمة القائمة وإصدار تشريعات جديدة تهدف إلى تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وكان من أبرز ما صدر في عهد الملك فهد النظام الأساسي للحكم، الذي يمثل الإطار الدستوري للمملكة، حيث حدد أسس الحكم المستند إلى الشريعة الإسلامية، وأوضح حقوق وواجبات المواطنين، ووضع المبادئ العامة التي تنظم إدارة الدولة، مما أسهم في تعزيز الاستقرار السياسي وترسيخ مبدأ سيادة القانون. إلى جانب ذلك، تم إصدار نظام مجلس الوزراء، الذي نظم أعمال المجلس وحدد صلاحياته، مما عزز من كفاءة الأداء الحكومي وساهم في تحسين عملية صنع القرار. كما تم إصدار نظام مجلس الشورى، الذي عزز من دور المجلس في مناقشة الأنظمة واللوائح، وإبداء الرأي في القضايا الوطنية، مما رسخ مفهوم الشورى في العمل الحكومي، وأسهم في تطوير البيئة التشريعية.
وفي إطار تعزيز الإدارة المحلية وتحقيق التنمية المتوازنة بين مختلف مناطق المملكة، صدر نظام المناطق، الذي كان خطوة هامة نحو تعزيز اللامركزية، حيث تم تقسيم المملكة إلى مناطق إدارية، ومنح أمراء المناطق صلاحيات أوسع لإدارة شؤون مناطقهم، مما ساهم في تحسين الخدمات الحكومية وتعزيز التنمية المحلية.
كما شهد عهد الملك فهد تطويرًا واسعًا للأنظمة الاقتصادية والمالية والقضائية، بهدف دعم الاقتصاد الوطني، وتعزيز مناخ الاستثمار، وتحقيق العدالة الناجزة. ففي الجانب القضائي، تم إصدار نظام ديوان المظالم، الذي عزز استقلالية القضاء الإداري، وحدد اختصاصات الديوان في النظر في القضايا الإدارية والمنازعات المتعلقة بالجهات الحكومية، مما أسهم في تحقيق العدالة الإدارية وضمان حقوق الأفراد أمام الدولة. وفي الجانب الاقتصادي، صدر نظام الاستثمار الأجنبي، الذي فتح المجال أمام المستثمرين الأجانب للعمل في المملكة وفق ضوابط محددة، مما ساعد في جذب الاستثمارات الأجنبية، ونقل المعرفة والتقنيات الحديثة، وتعزيز التنويع الاقتصادي. كما تم إصدار نظام حماية المنافسة، الذي ساهم في منع الاحتكار، وضمان تكافؤ الفرص بين الشركات، وتعزيز بيئة الأعمال التنافسية، مما أسهم في تحقيق سوق أكثر عدالة وكفاءة.
وفي مجال التنظيم المالي، جاء نظام السوق المالية، الذي وضع الأطر القانونية لتنظيم سوق الأسهم، وحماية المستثمرين، وتعزيز الشفافية في التعاملات المالية، مما أدى إلى تطوير سوق المال السعودي وزيادة ثقة المستثمرين. كما تم إصدار نظام المشتريات الحكومية، الذي وضع معايير واضحة لإجراءات المناقصات والعقود الحكومية، بهدف تحقيق النزاهة والشفافية، وضمان الكفاءة في الإنفاق العام.
وقد أسهمت هذه الإصلاحات القانونية في إرساء بيئة تنظيمية أكثر تطورًا، عززت من قدرة المملكة على مواكبة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وساعدت في بناء مؤسسات حكومية أكثر كفاءة، مما جعل عهد الملك فهد محطة بارزة في مسيرة التطوير التشريعي في المملكة.
وشهد عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز نقلة نوعية في تطوير الأنظمة القضائية والتشريعية، حيث تم التركيز على تطوير القضاء، وتعزيز دور القطاع غير الربحي، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، إلى جانب تنظيم التمويل العقاري والاستثمارات، وذلك في إطار رؤية شاملة تهدف إلى تحقيق العدالة والتنمية المستدامة وتعزيز الشفافية في مختلف القطاعات. وقد تميزت هذه المرحلة بإطلاق إصلاحات جوهرية دعمت مسيرة التحول القانوني والإداري في المملكة، وأسهمت في تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع الحفاظ على القيم والثوابت الإسلامية.
ومن أبرز التطورات التشريعية التي شهدها هذا العهد نظام القضاء، الذي كان جزءًا من مشروع تطوير المنظومة القضائية، حيث عزز استقلالية القضاء، ووضع أسسًا لتنظيم المحاكم بمختلف درجاتها، وشمل إنشاء محاكم متخصصة، مثل المحاكم التجارية والعمالية، مما ساهم في تسريع الفصل في القضايا وتحقيق العدالة الناجزة. كما تم تطوير نظام ديوان المظالم، الذي أدى إلى تعزيز كفاءة القضاء الإداري، من خلال إعادة هيكلة الديوان، وتحديد اختصاصاته بشكل أكثر دقة، بما يضمن سرعة البت في القضايا الإدارية وحماية حقوق الأفراد والمؤسسات أمام الجهات الحكومية.
وفي ظل التقدم التكنولوجي المتسارع، صدر نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، الذي وضع إطارًا قانونيًا لمعالجة الجرائم الإلكترونية، مثل الاختراقات، والتزوير الرقمي، وانتهاك الخصوصية، والاحتيال عبر الإنترنت، مما ساعد في تعزيز الأمن السيبراني وحماية الأفراد والمؤسسات من التهديدات الرقمية. كما شهد هذا العهد اهتمامًا خاصًا بتعزيز دور القطاع غير الربحي، حيث صدر نظام المؤسسات والجمعيات الأهلية، الذي نظم عمل الجمعيات الخيرية والمؤسسات غير الربحية، وفتح المجال أمام القطاع الخاص والمجتمع المدني للمساهمة في التنمية، مما عزز من دور المجتمع في تحقيق أهداف رؤية المملكة التنموية.
وفي إطار دعم التنمية الاقتصادية، تم إصدار نظام الرهن العقاري، الذي ساهم في تنظيم عمليات التمويل العقاري، وسهل على المواطنين الحصول على القروض السكنية، مما ساعد في تنشيط سوق العقارات ودعم تملك المساكن. كما تم تطوير نظام مكافحة غسل الأموال، الذي عزز من جهود المملكة في مكافحة الجرائم المالية، من خلال وضع آليات لمراقبة التدفقات النقدية، وتشديد العقوبات على الممارسات غير المشروعة، بما يتماشى مع المعايير الدولية في هذا المجال.
ومن القرارات المهمة التي صدرت في عهد الملك عبد الله تمكين المرأة في مجلس الشورى، حيث صدر أمر ملكي بتخصيص نسبة محددة من مقاعد المجلس للنساء، مما شكل خطوة تاريخية في تعزيز دور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية، وساهم في تمثيل قضاياها بشكل أكبر داخل المجلس.
وقد أسهمت هذه التطورات القانونية في تعزيز سيادة القانون، وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، وتحفيز التنمية الاقتصادية، مما جعل عهد الملك عبد الله محطة مفصلية في مسيرة الإصلاح التشريعي بالمملكة، ومهد الطريق لمزيد من التطويرات التي استمرت في العهود اللاحقة.
وفي عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، ومع انطلاق رؤية 2030 بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، شهدت المملكة قفزة نوعية في التشريع، حيث تم إصدار أنظمة حديثة تهدف إلى تعزيز الشفافية، وتحفيز الاستثمار، وتطوير المنظومة القضائية لتتماشى مع المعايير الدولية، مع التركيز على تطوير حقوق الأفراد، وتمكين المرأة، وتعزيز الاقتصاد الرقمي، وحماية البيئة. ويُعد هذا العهد نقطة تحول كبرى في مسيرة التطور التشريعي، إذ تم إطلاق العديد من الأنظمة والإصلاحات التشريعية ضمن رؤية السعودية 2030، والتي تهدف إلى تطوير المنظومة القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز كفاءة الأنظمة الحكومية، وضمان العدالة وسيادة القانون.
وقد جاءت هذه التشريعات لتعكس التوازن بين الالتزام بالشريعة الإسلامية وتطوير الأنظمة الإدارية والقضائية الحديثة. ولا شك أن هذه الإصلاحات التشريعية والقضائية الكبيرة جاءت ثمرة لاهتمام القيادة الرشيدة بتحقيق العدل وسيادة القانون على الجميع، وتطبيقه على الكبير قبل الصغير. ومن أبرز هذه التطورات إصدار نظام المعاملات المدنية عام 2023، الذي يمثل نقلة نوعية في تنظيم العقود والتعاملات المدنية، حيث وفر إطارًا قانونيًا واضحًا للعلاقات المدنية، مما يعزز الثقة في المعاملات التجارية والشخصية. كما تم إقرار نظام الإثبات عام 2021، الذي يهدف إلى تعزيز العدالة من خلال تنظيم وسائل الإثبات في القضايا المدنية والجنائية، وتطوير قواعد الإثبات بما يتماشى مع الممارسات القانونية الدولية. وفي عام 2022، تم إقرار نظام الأحوال الشخصية، الذي ينظم قضايا الزواج والطلاق والميراث وفق قواعد قانونية واضحة، مما يعزز الاستقرار الأسري ويحمي حقوق الأفراد. ومن المتوقع صدور مشروع نظام العقوبات التعزيرية قريبًا، والذي يهدف إلى تقنين العقوبات، وتعزيز الشفافية في الأحكام القضائية، وضمان العدالة في العقوبات.
وعلى الصعيد الاقتصادي، شهدت المملكة تطويرات تشريعية تهدف إلى دعم ريادة الأعمال، وجذب الاستثمارات، وتعزيز حوكمة الشركات، حيث صدر نظام الشركات الجديد عام 2022، الذي يسهل الإجراءات النظامية ويحفز النمو الاقتصادي. كما تم تطوير نظام المنافسة لتعزيز الشفافية والعدالة في الأسواق، ومنع الاحتكار، وتشجيع بيئة تنافسية عادلة بين الشركات. وفي مجال التمويل والاستثمار، تم إطلاق نظام التمويل العقاري وتطوير نظام البنوك، مما أسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية، وتوفير بيئة استثمارية أكثر استقرارًا للمستثمرين والممولين.
وفي الجانب الاجتماعي، شهدت المملكة تطويرًا تشريعيًا لتعزيز حقوق المرأة، حيث تم تعديل العديد من الأنظمة لإعطاء المرأة مزيدًا من الحقوق، مثل تعديل نظام الأحوال الشخصية، وإصدار قرارات تدعم حقوق المرأة في التوظيف وريادة الأعمال، وإلغاء القيود السابقة التي كانت تحد من قدرتها على ممارسة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. كما تم إصدار أنظمة لحماية البيئة، مثل نظام البيئة، ونظام المياه، ونظام إدارة النفايات، والتي تهدف إلى الحفاظ على الموارد الطبيعية، وتعزيز الاستدامة البيئية وفق المعايير الدولية. ولتعزيز دور المجتمع المدني، تم تطوير نظام الجمعيات الأهلية، مما يتيح للمنظمات غير الربحية دورًا أكبر في دعم التنمية والمشاركة في المبادرات الوطنية.
وفي المجال الرقمي، تم إصدار نظام حماية البيانات الشخصية لضمان أمن المعلومات الرقمية، وحماية خصوصية الأفراد في ظل تزايد الاعتماد على التكنولوجيا والبيانات الرقمية. كما تم تطوير نظام الجرائم المعلوماتية لمواكبة تحديات الفضاء السيبراني، وحماية الأفراد والمؤسسات من الجرائم الإلكترونية، مثل الاختراقات، والاحتيال الرقمي، والتجسس الإلكتروني.
وشهدت المملكة في السنوات الماضية تطورات تشريعية مهمة في مجال تمكين المرأة، حيث تم تعديل العديد من الأنظمة لإعطاء المرأة مزيدًا من الحقوق، مثل إلغاء شرط موافقة ولي الأمر على السفر، وتمكينها من قيادة السيارة، وتسهيل إجراءات تسجيل الشركات المملوكة للنساء دون الحاجة إلى موافقة ولي الأمر، وتعزيز مشاركتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما تم إصدار نظام مكافحة التحرش، الذي وضع عقوبات صارمة لحماية الأفراد من أي ممارسات غير أخلاقية، مما يعزز الأمان الاجتماعي ويضمن بيئة عمل وحياة كريمة للجميع.
وفي إطار تعزيز النزاهة والشفافية، شهد العهد الحالي إصلاحات جوهرية في مكافحة الفساد، من خلال إصدار أنظمة وتشريعات تهدف إلى تعزيز المساءلة والمحاسبة، ومن أبرزها نظام مكافحة الفساد، الذي منح هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) صلاحيات موسعة للتحقيق في قضايا الفساد الإداري والمالي. كما تم إصدار نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا، الذي يهدف إلى تفعيل آليات جديدة للإبلاغ عن الفساد، وحماية المبلغين من أي تبعات سلبية، بما يضمن بيئة خالية من الممارسات غير المشروعة. وتم تعديل أنظمة العقوبات لتعزيز الردع ضد الفساد المالي والإداري، مع التركيز على تعزيز الشفافية في العقود الحكومية والمشتريات، مما يعزز الثقة في بيئة الأعمال والاستثمار في المملكة.
تشكل هذه الإصلاحات التشريعية والقانونية حجر الأساس لمسيرة التطور التي تشهدها المملكة، حيث تعكس رؤية 2030 التزام القيادة الرشيدة بإرساء نظام قانوني متكامل يواكب التطورات العالمية، ويعزز بيئة الأعمال والاستثمار، ويرتقي بجودة الحياة، ويحقق العدالة الاجتماعية، ويعزز سيادة القانون. ويؤكد هذا النهج أن المملكة العربية السعودية اليوم تمتلك بيئة تشريعية حديثة، تدعم الابتكار، وتحفز النمو الاقتصادي، وتحمي الحقوق، وتعزز النزاهة، مما يجعلها نموذجًا في تطوير التشريعات وفقًا لأفضل الممارسات العالمية.
ختامًا، شهدت الدولة السعودية منذ تأسيسها وعبر مراحلها الثلاث وحتى اليوم تطورات تشريعية كبرى أسهمت في ترسيخ استقرارها وتعزيز مكانتها، مستندة إلى مبادئ الشريعة الإسلامية مع تبني نهج متجدد يواكب تطورات العصر. ولم يكن هذا التطور مجرد تطوير للأنظمة، بل هو انعكاس لرؤية متكاملة تهدف إلى تحقيق العدالة، وتمكين المجتمع، وتعزيز التنمية المستدامة، وضمان استقرار الدولة لأجيال قادمة. ويظل يوم التأسيس شاهدًا على أن البناء القانوني كان وسيظل أحد أهم ركائز نهضة المملكة، إذ إن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نشهده اليوم هو ثمرة جهود متراكمة امتدت لقرون، تعكس رؤية قيادية واعية تدرك أن قوة الدولة لا تُبنى إلا على أسس راسخة من العدل والحوكمة الرشيدة. ومع استمرار تحقيق مستهدفات رؤية 2030، تواصل المملكة مسيرتها كنموذج متفرد يجمع بين الأصالة والحداثة، مستمدة قوتها من تاريخها العريق، ومستشرفة مستقبلاً أكثر ازدهارًا من خلال تطوير منظومتها التشريعية، لتظل رائدة في بناء دولة حديثة متينة الأسس، تنافس عالميًا، وتسير بخطى واثقة نحو مستقبل أكثر استدامة وعدالة ونماء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال