الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يكن الاقتصاد يوما كيانا ثابتا، بل نسيجا متحركا يعيد تشكيل نفسه مع كل أزمة. واليوم، تتشابك القيود التجارية مع السياسات البيئية، لتعيد رسم الأسواق بين رؤيتين متناقضتين هما نظرة متشائمة تخشى ركودا يعيد توزيع القوى، وأخرى متفائلة ترى في ذلك ولادة اقتصاد أكثر استدامة. وبين الخوف من التغيير وإغراء التجديد، يبقى السؤال معلقا: هل الاقتصاد هو من يتغير، أم أنه الأداة التي تصوغ ملامح التغيير؟
لكن في خضم هذا التحول، يبقى الجدل قائما حول دور السياسات التقليدية في هذه المعادلة، إذ تحاول بعض الدول مقاومة التغيير عبر فرض التعريفات الجمركية لحماية صناعاتها المحلية. وفقا لدراسة Lashkaripour, 2021، قد تؤدي هذه الإجراءات إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 2.8%، إلا أنني أرى أن هذا الطرح متشائم للغاية، إذ يتجاهل قدرة الأسواق على التكيف وإيجاد مسارات جديدة للنمو، كما حدث مرارا عبر التاريخ.
في موازاة ذلك، تأتي آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) التي تبناها الاتحاد الأوروبي كأداة ذات أبعاد اقتصادية عميقة. فمن خلال فرض ضرائب على المنتجات المستوردة وفقا لانبعاثاتها الكربونية، تسعى اوروبا إلى خلق بيئة تجارية تضمن تكافؤ التكلفة بين المنتجات المحلية والمستوردة. هذه الاداة التي ستُطبق بالكامل في 1 يناير 2026، ليست مجرد إجراء مناخي، بل تمثل إعادة هيكلة للأسواق العالمية، خصوصا تلك الدول المعتمدة على الصناعات الثقيلة والطاقة الأحفورية، مما يجعل دول الخليج في قلب هذه العاصفة الاقتصادية.
التغيير كفرصة “من يتكيف يقود المستقبل”
إن ما يثير الدهشة لدي في بعض الدراسات الاقتصادية الصادرة من الدول الرائدة في الرأسمالية، هو أنها تبدو وكأنها تتناقض مع فلسفة النظام ذاته. الرأسمالية لم تنادي يوما بالانغلاق، بل كانت دائما نظاما مرنا قادرا على التكيف وإعادة الابتكار والنمو. ولهذا فإن التوقعات المتشائمة، مثل انخفاض 2.8% في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لا تأخذ في الاعتبار “ديناميكية الأسواق” وقدرتها على إيجاد حلول بديلة.
إذا أعدنا قراءة المشهد بزاوية مختلفة، سنجد أن ضرائب الكربون ليست تهديدا، بل فرصة لإعادة هيكلة الاقتصادات نحو الاستدامة. خذ السعودية كمثال، فهي قادرة على تعزيز مكانتها كمركز عالمي لحلول الاستدامة والهيدروجين الأخضر. بدلا من أن تكون ضرائب الكربون عقبة أمام الصادرات، “يمكن أن تصبح حافزا لتطوير مشاريع احتجاز الكربون”، وإنشاء تحالفات تجارية جديدة مع الدول التي تبحث عن شركاء يلبّون معايير الكربون الجديدة.
أعتقد ان ما يحدث اليوم ليس انهيارا اقتصاديا، بل إعادة توزيع للقوة الاقتصادية العالمية. الدول التي تعاند التغيير ستجد نفسها متأخرة، بينما الدول التي تستوعب التحولات وتعيد توجيه استثماراتها وفقا لها، ستكون هي من يقود المرحلة القادمة.
التغيرات الحالية ليست أزمة، بل نافذة تفتح على مستقبل اقتصادي مختلف. فالاقتصاد لا يموت، بل يعيد ولادة نفسه مع كل دورة، ومن يدرك هذه الحقيقة مبكرا، سيبقى دائما في موقع الريادة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال