الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعتبر المراجعة الداخلية من أهم الأدوات التي تساهم في تعزيز الحوكمة والاستدامة. في مقالي السابق “استقلالية لجان شركات المساهمة وفعالية الحوكمة”، تطرقت إلى أهمية استقلال اللجان، مع التركيز على دور لجنة الترشيحات في التأثير على اختيار الكفاءات ومدى انعكاس ذلك على فعالية الحوكمة. وفي هذا المقال أواصل الحديث عن أهمية الاستقلال، ولكن من زاوية أخرى وهي استقلالية المراجع الداخلي، فكما أن استقلال اللجان يعزز من نزاهة قراراتها، فإن استقلالية المراجع هي الركيزة الأساسية لضمان موضوعية عملية المراجعة الداخلية بأكملها، والتي تُعد أحد أهم أدوات الحوكمة لتعزيز الشفافية والمساءلة داخل المنظمة، ولأن استقلاليته وموضوعيته هما الركيزتان الأساسيتان اللتان تحددان نجاح وفعالية عملية المراجعة برمتها. لذا تبادر لي طرح السؤال التالي: ما أثار تعرض استقلالية المراجع الداخلي للانتهاك؟
تشير الاستقلالية بحسب المعايير العالمية للتدقيق الداخلي الصادرة من IIA إلى التحرر من الظروف التي قد تهدد قدرة نشاط المراجع الداخلي على أداء مسؤولياته بشكل غير متحيز، فهي تتيح للمراجعين اتخاذ أحكام مهنية مستقلة، وأداء مسؤولياتهم بعناية وفعالية، مع ضمان عدم التأثر بأي تدخلات أو ضغوط قد تقوض نزاهتهم أو موضوعية تقاريرهم. أما الموضوعية(الحيدة)، فهي تعكس موقفاً ذهنياً غير متحيز يتبناه المراجع أثناء أداء عمله، مما يضمن تقييماً محايداً وغير متأثر بأي مصالح شخصية أو خارجية، من خلال الالتزام بهذين المبدأين يستطيع المراجع تحقيق غايته الأساسية في تقديم توصيات موضوعية ومسؤولة تساهم في تحسين الأداء المؤسسي وتعزيز الشفافية والمساءلة.
تعد الاستقلالية عنصراً جوهرياً في ضمان موضوعية عمليات المراجعة، وذلك وفقاً للمعيار 7.1 المتعلق بـالاستقلالية التنظيمية بالمعايير الانف ذكرها، وبناء على ذلك فأن المراجع الداخلي يجب أن يتمتع بالحرية التامة في أداء عمله دون أي ضغوط قد تؤثر على نزاهته أو جودة تقاريره، ولكن في العديد من المنظمات نجد أن المراجع الداخلي يقع تحت تأثير الإدارة التنفيذية، سواء من خلال الإشراف الإداري المباشر أو من خلال سيطرتها على الترقيات، الحوافز، أو تقييم الأداء، هذا الارتباط قد يضعف دوره الرقابي، وقد يشعر بالتردد في الإبلاغ عن أي مخالفات أو تقديم توصيات جريئة في ظل وجود تنفيذيين يفتقرون إلى النزاهة.
أحد أبرز المخاطر الناتجة عن ضعف الاستقلالية هو تضارب المصالح، ووفقاً للمعيار 8.1 من المعايير الجديدة والمتعلق بتفاعل المجلس، يلزم مجلس الإدارة بتوفير الدعم الوظيفي والموارد اللازمة لتعزيز استقلالية المراجعين الداخليين، ولكن عندما تتولى الإدارة التنفيذية مسؤولية تقييم أداء المراجع أو تحديد ترقياته ومكافآته، فإن ذلك قد يؤدي إلى تعرضه لضغوط كبيرة تجعله يتجنب تقديم تقارير نقدية بشأن الاشكالات الموجودة في الإدارة، هذا الوضع يُفضي إلى عدم دقة في التقارير، وضعف في الدور الرقابي له، كما يتعارض تماماً مع المعايير 2.1 الموضوعية الفردية؛ الذي يشدد على ضرورة أن يكون محايداَ في تقييمه وألا تؤثر أي عوامل خارجية على قراراته.
من ناحية أخرى تُعد برامج التدريب إحدى الأدوات الرئيسية لتطوير كفاءة المراجع الداخلي وتعزيز أدائه، ومع ذلك عندما تكون هذه البرامج تحت سيطرة الإدارة التنفيذية من ناحية تحديد الميزانيات والصرف الخ..، فقد يتم توجيهها بطرق تحد من قدرته على التعامل بفعالية مع القضايا الحساسة التي تتطلب مهارات وتدريب خاص، ووفقاً للمعيار 3.2 الخاص بالتدريب المهني المستمر، يجب أن يخضع المراجع لتدريبات تعزز مهاراته المهنية وتضمن استمرارية تطوره، وعندما لا يتم احترام مبدأ استقلالية المراجعة الداخلية، فإن العواقب قد تكون وخيمة على المنظمة، فالتقارير غير الموضوعية تساهم في ضعف الرقابة الداخلية، تفشي الفساد المالي والإداري، وفقدان الثقة في نتائج المراجعة، على النقيض عندما يتمتعون باستقلالية تامة يكونون قادرين على تقديم تقارير دقيقة وموضوعية، مما يساعد في كشف الثغرات وتحسين العمليات، واخيراً تعزيز مصداقية المنظمة بشكل مستمر.
وعندما يكون المراجع مرتبطاً إدارياً بالإدارة التنفيذية فإن ذلك يُشكل تحدياً كبيراً لاستقلاليته، فمن غير المعقول أن يكون مسؤولاً عن تقييم أداء نفس الجهة التي تتحكم في حوافزه وترقياته أو حتى تدريبه، ووفقاً للمعيار 7.3 الذي يؤكد على وجوب ارتباطه مباشرة بلجنة المراجعة أو مجلس الإدارة، وليس بالإدارة التنفيذية، لضمان الحيدة والاستقلال وعدم تعرضه لأي تأثير قد يؤثر على نتائج أعمال المراجعة.
لذلك من الضروري تطبيق مجموعة من الضوابط التي تضمن استقلاليته، وأهمها الفصل الإداري بين المراجعة الداخلية والإدارة التنفيذية، فوفقاً للمعيار 7.1 الذي تطرقاً له سابقاً تناول مسألة التفاعل المباشر مع مجلس الإدارة؛ حيث يجب أن يكون للمراجع قنوات تواصل مباشرة مع مجلس الإدارة، مما يضمن أنه يمكنه التعبير عن ملاحظاته دون خوف من العواقب الوظيفية، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تتم عمليات تقييم الأداء، الترقيات، والحوافز الخاصة بالمراجعين الداخليين وفق معايير شفافة وموضوعية تحددها جهات مستقلة، بعيداً عن تدخل الإدارة التنفيذية، ووجود معايير واضحة يساعد على حماية المراجع من أي محاولات للضغط أو التأثير على الأداء.
إن استقلالية المراجع الداخلي ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل هي ضرورة لتعزيز الشفافية والحوكمة الفعالة داخل المنظمة، ووضوح وموضوعية التقارير تعتمد بشكل كبير على الاستقلالية الكاملة للمراجع الداخلي، مما يساهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمنظمة وبفعالية. في النهاية حماية استقلالية المراجعين الداخليين هي مسؤولية تقع على عاتق مجلس الإدارة والجهات الرقابية، وذلك من خلال خلق بيئة تدعم الاستقلالية وتقدر النزاهة والموضوعية والكفاءة، وعلى هذا الأساس يمكن للمنظمات أن تضمن أن يكون المراجع الداخلي أداة فعالة في تحقيق الحوكمة، المساءلة، والامتثال، ويعزز من استدامة الأداء المؤسسي ويدعم نجاح المنظمة على المدى البعيد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال