الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذا المقال هو الثاني ضمن سلسلة مقالات نخصّصها لتحليل أبرز المخرجات التي وردت في تقرير “مستقبل الوظائف 2025” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. في المقال السابق، تناولنا الخلفية العامة للتغييرات المتسارعة في سوق العمل والدوافع الرئيسة لتنامي الطلب على مهارات رقمية متقدمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي. ونستكمل في هذه السطور ما بدأناه، مسلِّطين الضوء على التحوُّل الأخضر بوصفه واحدًا من أهم المحاور التي تشهدها الاقتصادات العالمية، ودوره المحوري في رسم ملامح سوق العمل المستقبلي، بما يشمل فرصًا واسعةً وأحيانًا تحديات تستلزم سياسات وخططًا مبتكرة.
ينطلق مفهوم التحوُّل الأخضر من إدراك متزايد بأنّ نموذج النمو الاقتصادي التقليدي لم يعد قابلًا للاستمرار على المدى الطويل بسبب ضغطه الكبير على البيئة واستنزافه للموارد الطبيعية. ومن هنا، أصبح من الضروري إعادة تشكيل الاقتصادات بما يجعلها أكثر كفاءةً في استخدام الموارد وأقلّ ضررًا على الكوكب. ويقدّم تقرير “مستقبل الوظائف 2025” تذكيرًا صارخًا بأنّ التوجّه نحو الاقتصاد الأخضر قد يفوق كونه حلًّا أخلاقيًّا أو بيئيًّا، ليغدو محورًا لاستثمارات ضخمة في التكنولوجيا النظيفة ولتطوير قطاعات جديدة قادرة على خلق فرص عمل عالية الجودة. ويشير التقرير إلى تقديراتٍ تفيد بأنّ التحوُّل نحو ممارسات مستدامة قد يخلق ما يزيد على 24 مليون وظيفة حول العالم بحلول عام 2030، ما يعكس انعطافًا جذريًّا في آلية الإنتاج والتوظيف ويضع الاستدامة في صلب الجهود التنموية للدول.
ما يلفت النظر في التحوُّل الأخضر هو تعدُّد المسارات والفرص التي يمكن أن ينتجها. ففي قطاع الطاقة، على سبيل المثال، يشهد العالم صعودًا لافتًا لمصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، مدفوعًا بانخفاض تكاليف إنتاج الألواح الشمسية وتحسن كفاءتها. هذا الانخفاض التدريجي في التكاليف فتح أمام الشركات والمستثمرين آفاقًا جديدة لتوطين صناعات الطاقة النظيفة، وتوسيع نطاقها من مجرّد مبادرات صغيرة إلى مشاريع ضخمة توفّر إمدادات كهرباء مستدامة للمناطق الصناعية والمجمعات السكنية على حدٍّ سواء. وتؤدي هذه المشاريع إلى نشوء وظائف متنوعة تشمل مهندسين متخصصين في تخطيط الأنظمة وتصميمها، وفنيين يتكفّلون بتركيبها وصيانتها، ومديري مشروعات يديرون التمويل والجدوى الاقتصادية، فضلًا عن كوادر مختصة بتحليل البيانات لضبط عمليات التوليد وفق الاحتياجات الفعلية.
يتكرّر هذا السيناريو في قطاع النقل، حيث يكتسب التحوُّل نحو المركبات الكهربائية زخمًا كبيرًا. ولم يعد الحديث عن السيارات الكهربائية أو الهجينة مجرّد نزعة تظهر في الأسواق المتقدمة، بل أصبح استراتيجية طويلة الأمد تتبنّاها شركات تصنيع السيارات الكبرى التي ترى في هذا التوجّه بوابةً للبقاء التنافسي من جهة، وحلًّا مطروحًا للتحديات البيئية من جهة أخرى. وتلقي هذه الثورة التقنية بظلالها على مختلف مراحل سلسلة القيمة في قطاع السيارات، بدءًا بتصميم هيكل المركبة ونظامها الإلكتروني، وصولًا إلى توفير شبكات الشحن العامة والخاصة، وانتهاءً بتطوير بطاريات ذات كفاءة عالية وقدرة تخزين طاقة طويلة المدى. وبفضل هذا التحوُّل، تنشأ فرص عمل للمهندسين والفنيين والباحثين ومطوّري البرمجيات، كما تتطلّب تنمية مهارات العاملين الحاليين في هذا القطاع بحيث يتكيفون مع متطلبات الصناعات الخضراء الجديدة.
ولا تقتصر مظاهر التحوُّل الأخضر على مشهد الطاقة والمركبات النظيفة، إذ يمتد إلى ما يُعرف بالاقتصاد الدائري الذي يشجّع على تقليل النفايات وإعادة تدوير المواد الخام إلى الحد الأقصى. ولطالما كان نموذج “استخدم وتخلّص” مهيمنًا في كثير من القطاعات، ما أدّى إلى تفاقم مشكلات التلوث واستنزاف الموارد. إلا أنّ بروز الوعي البيئي لدى الحكومات والشركات والمستهلكين يمنح الاقتصاد الدائري فرصة ليصبح مسارًا تنمويًّا رائدًا، يطرح حلولًا إبداعية لإدارة المخلفات وتحويلها إلى مدخلات لقطاعات أخرى. وتتيح هذه العملية فرصًا وظيفية جديدة تشمل الخبراء والمحللين البيئيين الذين يقيسون أثر الإنتاج على البيئة، ويضعون سياسات لإعادة الاستخدام، ويبتكرون تصاميم تُسهّل تفكيك المنتجات وصيانتها وإعادة تدويرها. وهكذا تتحوّل المخلفات من عبءٍ مُكلفٍ إلى مجال استثماري تنافسي، يساهم في خفض الكلفة الإجمالية للإنتاج وتحسين الأداء البيئي على حدّ سواء.
لكنّ هذه الفرص الواعدة تترافق مع تحديات معقّدة. فقد ثبت أنّ التكلفة الأوّلية لمشاريع خضراء مثل محطات الطاقة الشمسية أو مرافق إعادة التدوير قد تتجاوز بكثير التكاليف التقليدية، ما يُشعر الشركات الصغيرة والمتوسطة على نحو خاص بالقلق من الاستثمار في هذه التقنيات. لذلك يشير تقرير “مستقبل الوظائف 2025” إلى أنّ استقطاب رؤوس الأموال يتطلّب تدخلات حكومية فعّالة عبر سياسات تحفيزية كالإعفاءات الضريبية والقروض المدعومة والشراكات بين القطاعين العام والخاص. ومن شأن هذه الحوافز تخفيفُ مستوى المخاطرة لدى المستثمرين، وتعزيز الجدوى المالية للمشروعات الخضراء التي قد تمثّل على المدى الطويل عائدات أكبر إذا ما قورنت بأساليب الإنتاج التقليدية.
إلى جانب ذلك، تظهر مشكلة تتعلق بنقص الكفاءات البشرية المؤهَّلة لإدارة القطاعات الخضراء والعمل فيها. إذ إنّ تبنّي نماذج جديدة في الإنتاج والطاقة والنقل يستوجب مهاراتٍ متطورةٍ في علوم الهندسة وإدارة المشروعات والتقنيات الرقمية وتحليل البيانات. وهنا تبرز ضرورة التركيز على خطط التعليم والتدريب القادرة على تلبية هذا الطلب المتزايد. ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تعاونًا وثيقًا بين الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الكبرى لصياغة برامج دراسية وتدريبية تتوافق مع متطلبات التحوُّل الأخضر، بل وربما إدراج مساقات متخصصة في ريادة الأعمال الخضراء ضمن المناهج الأكاديمية.
على صعيد آخر، يلفت التقرير الانتباه إلى أنّ الاقتصادات الناشئة تمتلك فرصة كبيرة كي تتبنى التحوُّل الأخضر بمرونة قد تفوق في بعض الأحيان الاقتصادات المتقدمة ذات البنى التحتية المعقدة. ففي البلدان التي تتوافر فيها مصادر طبيعية للطاقة الشمسية أو الرياح، يمكن أن تنشأ صناعات خضراء من الأساس، بحيث يتطور القطاع الصناعي أو الزراعي أو اللوجستي في إطار نموذج حديث يُعنى بالكفاءة البيئية. وهذا يساعد في دمج شريحة واسعة من القوى العاملة المحلية في هذه المشاريع، وفي الوقت ذاته يعزّز تنافسية الدولة في جذب الاستثمارات الراغبة في توجيه أموالها صوب قطاعات المستقبل.
ومما يزيد جاذبية التحوُّل الأخضر على المستوى العالمي ارتباطه الوثيق بتعزيز سمعة الشركات وتحصيلها لمكانة مرموقة لدى المستهلكين والمستثمرين على حد سواء. فبيئة الأعمال اليوم تشهد زيادة ملحوظة في وعي المستهلكين حول القضايا البيئية، وتميل قطاعات عريضة من المشترين إلى تفضيل العلامات التجارية التي تلتزم بممارسات مسؤولة تجاه الكوكب. وينعكس ذلك إيجابًا على أسعار أسهم الشركات ومكانتها في الأسواق المالية، لا سيما في ظل تنامي الاستثمارات المؤسسية في الصناديق الخضراء والمستدامة.
في ضوء ما تقدّم، يبدو واضحًا أنّ التحوُّل الأخضر لم يعد خيارًا نخبويًّا، ولا خطوة تجميلية تهدف إلى تلطيف سمعة المؤسسات عبر حملات تسويقية خضراء. بل يمثل توجّهًا استراتيجيًّا متكاملًا، يجمع بين ما هو أخلاقيّ والتزامٍ حقيقيٍّ بنمط اقتصادي أكثر كفاءة وأكثر مراعاة للموارد المحدودة. وحين يُدار هذا التحوُّل بطريقةٍ منهجيةٍ ويُدعَم بالتشريعات الحكومية والخطط الاستثمارية الرصينة، فإنّه سيكون قادرًا على تحفيز النمو الاقتصادي وابتكار فرص عمل جديدة وعالية المهارة. وبهذا المعنى، يحمل التحوُّل الأخضر وعدًا بقيادة الاقتصادات إلى حقبة تجمع بين ازدهار الأعمال والحفاظ على الطبيعة، وهي معادلة لطالما بدت عصيّة المنال.
يعالج تقرير “مستقبل الوظائف 2025” كل هذه الجوانب تفصيلًا، موضحًا المزايا والتحديات في آنٍ معًا، ومبيّنًا أنّ الفترة المقبلة سوف تشهد إعادة ترتيب للأولويات الاقتصادية كي تتواءم مع خطط الكفاءة والانبعاثات الصفرية والابتكارات الصديقة للبيئة. ويمكن القول إنّ الدول والشركات التي تتبنّى رؤية طويلة الأمد وتضع الاستدامة ضمن صميم استراتيجياتها ستسبق غيرها في الوصول إلى أسواق المستقبل وتعزيز قدرتها التنافسية. وفي المقابل، قد تجد الجهات التي تتأخر في الالتحاق بهذا الركب صعوبةً بالغةً في مواكبة التغييرات العميقة التي تزداد تسارعًا مع مرور الوقت.
بهذا ننهي المقال الثاني من هذه السلسلة التحليلية المستندة إلى تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي. وفي مقالنا المقبل، سنسلط الضوء على جانب آخر من التحوّلات المرتقبة في سوق العمل، مركزين على المهارات والكفاءات المتوقَّع أن تتصاعد أهميتها في ضوء التحديات التي فرضتها التقنيات الرقمية وتغيّر تركيبة الاقتصاد العالمي، وكيف يمكن للباحثين عن العمل أن يستعدّوا لهذه التحولات. وفي الوقت ذاته، ستظلّ الاستدامة عنصرًا يربط كافة القطاعات ببعضها، ويحفّز النقاش العالمي حول مسؤولية مشتركة تمزج ما بين مصالح الأعمال والمصلحة العامة للكوكب.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال