الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذا المقال هو الثالث والأخير ضمن سلسلة المقالات التحليلية التي استعرضنا فيها أبرز مخرجات تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، “مستقبل الوظائف 2025”. ففي المقال الأول، بحثنا في السياقات العامة التي تعيد صياغة سوق العمل، وأشرنا إلى مجموعة من التحولات التقنية والاقتصادية والديموغرافية. ثم انتقلنا في المقال الثاني إلى التركيز على التحوُّل الأخضر، بصفته مسارًا مهمًّا لإعادة تشكيل الاقتصادات وفق معايير الاستدامة وحُسن إدارة الموارد. وها نحن اليوم نتوقف عند الثورة الرقمية، أحد أكثر العوامل إلحاحًا في إحداث تغيير جذري في طبيعة الوظائف وفي هيكليات المؤسسات والسياسات الاقتصادية؛ إذ تُعَدّ التكنولوجيا الرقمية بكل تجلياتها – من ذكاء اصطناعي وحوسبة سحابية وتحليل بيانات ضخمة وإنترنت الأشياء – شريكًا أساسيًّا في صياغة عالم العمل خلال العقد المقبل وما بعده.
يؤكد التقرير أنّ التقنيات الرقمية، بقدرتها على أتمتة العمليات المتكررة وتوسيع آفاق التحليل، لن تكتفي بمجرد تحسين الإنتاجية في القطاعات التقليدية، بل ستفتح مسارات جديدة تمامًا لنماذج الأعمال. ففي التصنيع، مثلًا، تتزايد وتيرة استخدام الروبوتات والخوارزميات الذكية لتنفيذ مهام دقيقة على خطوط الإنتاج، ما يعيد توزيع الأدوار بين الإنسان والآلة. وفي قطاع الخدمات اللوجستية، يُتوقّع أن تتيح التقنية تحليلًا أكثر عمقًا لسلاسل الإمداد، بما يساهم في تقليص الهدر الزمني والمادي. أما على صعيد الخدمات المالية والرعاية الصحية، فتتسابق المؤسسات لاعتماد حلول تعتمد على التعلُّم الآلي لتحسين عمليات الإقراض أو تشخيص الأمراض وتشخيصها المبكر، وهو ما ينعكس في نهاية المطاف على معدلات الكفاءة والجودة.
غير أن هذا التحوُّل الرقميّ المتسارع لا يأتي دون ثمن؛ إذ ينبهنا التقرير إلى أنّ أتمتة المهام الروتينية قد تُفضي إلى تلاشي بعض الوظائف التقليدية أو تقلُّص أهميتها. وتُطرح هنا أسئلة حاسمة بشأن كيفية تأهيل القوى العاملة للانتقال من وظائفٍ قد تصبح في حكم الماضي، إلى وظائفٍ جديدةٍ نشأت حديثًا أو تطوّرت على نحوٍ مختلف. ففي الوقت الذي يجري فيه الاستغناء عن بعض الأدوار المعتمدة على تكرار الخطوات نفسها، تنشأ فرصٌ واعدة في قطاعات تحليل البيانات وتصميم البرمجيات وتطوير الأنظمة الذكية، ما يستلزم تكوين مهارات نوعية لا غنى عنها في سوق العمل المستقبلي.
ووفقًا للتقرير، تندرج هذه المهارات المطلوب اكتسابها تحت نوعين كبيرين؛ أولهما ما يمكن تسميته بالمهارات الرقمية الصلبة، وثانيهما المهارات الناعمة التي تمنح الأفراد قدرة على الإبداع وحل المشكلات والعمل الجماعي. فالمهارات الرقمية الصلبة تشمل الإلمام بأساسيات البرمجة وتحليل البيانات وفهم المبادئ الأساسية للذكاء الاصطناعي. وفي هذا الإطار، يؤكد خبراء المنتدى الاقتصادي العالمي أنّ الطلب سوف يتصاعد على فئات وظيفية مثل علماء البيانات (Data Scientists) ومطوّري الحلول الذكية و”مهندسي التعلم الآلي”، بالتوازي مع تزايد أهمية المهارات المرتبطة بالأمن السيبراني وإدارة المخاطر الرقمية. فمن المتوقع أن يحظى قطاع الأمن السيبراني بأولوية قصوى في ظل تعاظم أخطار القرصنة وتسريب البيانات وازدياد اعتماد المؤسسات على البنية التحتية السحابية.
أما المهارات الناعمة، فقد اكتسبت في الآونة الأخيرة أهمية تفوق ما كانت تحظى به قبل سنوات. ولعلّ السبب الرئيس وراء هذا التغيّر هو حاجة الشركات والمؤسسات اليوم إلى أشخاص يجمعون بين القدرة على التعاون والتواصل الفعّال والإبداع في ابتكار الحلول، وبين القدرة على التعامل مع التقنيات الحديثة وفهمها. فالأدوار القيادية، على سبيل المثال، لم تعد تختزل في الجانب الإداري الصرف، إذ بات لزامًا على المديرين في عصر التحوّل الرقمي فهم أساسيات الذكاء الاصطناعي والعمل عن بُعد وإدارة الفرق الافتراضية، وإتقان أساليب تنظيم المشاريع المُعقّدة التي تحتاج إلى ربط عمليات رقمية متنوعة في وقت واحد.
علاوةً على ذلك، يشدّد التقرير على أنّ المستقبل الوظيفي لن يكون محصورًا ضمن هياكل التوظيف التقليدية. فقد برزت في الأعوام القليلة الماضية نماذج توظيفٍ جديدة تستفيد من المنصات الرقمية التي تتيح التواصل والعمل عن بُعد أو بأسلوبٍ حر (Freelancing). وهذا التوجه، الذي تسارعت وتيرته بفعل الجائحة العالمية الأخيرة، يشجع بعض الشركات على تقليل مكاتبها التقليدية، ويمنحها فرصة الوصول إلى مواهب بشرية مقيمة في مناطق جغرافية بعيدة. كما يُمكِّن الأفراد أنفسهم من الاستفادة من مهاراتهم الخاصة وعرضها عالميًّا، بدل البقاء محصورين في سوقٍ محليةٍ محدودة. لكنّ هذا التمدد العابر للحدود يضع صنّاع القرار أمام تحدياتٍ جديدة تتعلق بضرورة تحديث الأطر التشريعية والضريبية والعمالية، لضمان حوكمة واضحة وحماية حقوق العاملين والشركات في آن معًا.
وما دمنا نتحدث عن سياساتٍ ودورٍ حكومي، فإن التقرير لا يغفل البعد الأساسي في هذا النقاش، المتمثل في فجوةٍ رقمية آخذة في الاتساع. فثمّة مجتمعاتٌ لا تزال تعاني ضعفًا في تغطية الإنترنت، أو قصورًا في البنى التحتية التقنية، ما يُهدد بتهميش أجيالٍ كاملة من الفرص التي تتيحها التقنيات الحديثة. ومن هنا تظهر أهمية تبنّي برامج تنموية شاملة تدعم نشر الشبكات عالية السرعة، وتُعزِّز توافر الأجهزة التقنية بتكلفة معقولة، فضلًا عن توفير مناهج تعليمية حديثة ترسّخ المهارات الرقمية منذ المراحل الدراسية المبكرة. ولا يخفى أنّ عدم سدّ هذه الفجوة سيفضي إلى تعميق التفاوت الاقتصادي بين الدول وحتى داخل الدولة الواحدة، بحيث يغدو التحوُّل الرقمي عاملًا إضافيًّا لتعزيز اللامساواة إن لم تواكبه سياساتٌ كفؤةٌ لتعميم فوائده.
يدعو التقرير، والحال كذلك، إلى تبنّي مفهوم “التعلّم مدى الحياة” بوصفه حجر الزاوية في مواكبة الثورة الرقمية. فلم يعد مقبولًا أن يكتفي الفرد بما حصل عليه من مؤهلات مدرسية أو جامعية، خاصةً في ظل تسارع وتيرة الابتكار التقني، فالمعارف التي كانت ذات قيمة قبل سنوات قد تُصبح متقادمة اليوم. ويبقى الرهان على قدرة الشركات، بالتعاون مع الحكومات والمؤسسات الأكاديمية، على توفير مسارات تدريبية مستمرة ومتنوعة، تتيح للموظفين – بل وحتى للباحثين عن عمل – فرصة تطوير مهاراتهم التقنية والاجتماعية، والاستعداد الجيد للوظائف التي تتشكل في الأفق. ويُسهم هذا التوجه في تعزيز مرونة سوق العمل، بما يضمن انتقالًا أكثر سلاسة للموظفين من مجالاتٍ تشهد انكماشًا بسبب الأتمتة إلى أخرى تشهد نموًا متسارعًا.
ومن المفيد في هذا الصدد التشديد على البُعد الأخلاقي والحوكمي للثورة الرقمية، إذ تتصاعد في الساحة العالمية مخاوف متعلقة بالخصوصية وأمن البيانات والانتهاكات الممكنة لحقوق الأفراد حال جمع المعلومات على نطاق واسع. وتُبرز التجارب الناشئة أنّ أي نجاحٍ اقتصاديٍ يتحقق من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي سيظل هشًّا إن لم تترافق معايير الابتكار بمعايير الحوكمة الرشيدة. ومن هذا المنطلق، تنادي مؤسسات دولية عديدة بوضع أطر تنظيمية واضحة وقابلة للتطوير تواكب تعقيدات العالم الرقمي، وتحفظ حقوق مختلف الأطراف، وترعى في الوقت نفسه روح الابتكار والمنافسة.
هكذا، يصل بنا التقرير إلى خاتمة تُجمع على أنّ الثورة الرقمية تشكّل فرصةً تاريخيةً لتجديد الاقتصادات العالمية وتنويع مصادر الدخل، وخلق وظائف نوعية أكثر إبداعًا وأعلى مردودًا ماديًّا ومعنويًّا. لكنها، في المقابل، تُحتِّم على الدول والمؤسسات تبنّي قرارات استراتيجية تستبق التحديات، سواء في ما يتعلق بالمناهج التعليمية أو سياسات التدريب أو اللوائح العمالية والضريبية. فالتغييرات الجارية لن تنتظر من يتخلّف عن الركب، وكلما أسرع صانعو السياسات في ردم الفجوات الرقمية وتأهيل القوى البشرية وبناء منظومة تشريعية مواكبة، ازدادت حصة بلدانهم من الفرص المميزة التي يطرحها الاقتصاد الرقمي.
بهذا المقال الثالث والأخير، نكون قد استكملنا إضاءتنا على أبرز المحاور التي وردت في تقرير “مستقبل الوظائف 2025” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. غير أنّ ما عرضناه ليس سوى المدخل لقراءة معمّقة في قضايا أخرى مهمة تطرّق إليها التقرير، كدور الابتكارات الاجتماعية، والتحولات الديموغرافية، وكيفية صياغة سياسات مالية ونقدية تستجيب لمتطلبات الاقتصاد الجديد. ونحن إذ نختم هذه السلسلة، ندعو كل المهتمين والمختصين للاطلاع على بقية ما جاء في التقرير بعيون فاحصة، للوقوف على فرصة استشراف مستقبل يكاد يتبدّل أمامنا كل يوم، وللمساهمة في رسم معالم حقبة جديدة يُرجى لها أن تجمع بين الابتكار الرقمي والاستدامة والعدالة في توزيع ثمار النمو.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال