الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أعاد فرض الرسوم الجمركية الواسعة الذي قام به الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل سنوات طرح تساؤلات مهمّة حول أفضل طريقة لوصف هذه القرارات في النماذج الاقتصادية. هل يجب اعتبارها صدمات “خارجية” تهزّ الأسواق من الخارج؟ أم ينبغي النظر إليها كعوامل “داخلية” تنبع من ضغوط وأهداف سياسية واقتصادية محلية؟
لا يقتصر هذا التصنيف على النقاش الأكاديمي، بل يؤثّر مباشرة على أساليب تقييم الأثر الاقتصادي للرسوم الجمركية على النمو والتضخم واستراتيجيات الأعمال والعلاقات الدولية. وفي النماذج الاقتصادية، يمكن أن يؤدّي تصنيف الصدمة كـ”داخلية” أو “خارجية” إلى تغيّرات جوهرية في النتائج التي يتوصّل إليها التحليل، وفي رسم تصوّرات الرابحين والخاسرين ومدى امتداد آثار الرسوم الجمركية.
أولًا: تعريف الصدمات الداخلية والخارجية
الصدمة الخارجية
تُعرّف الصدمة الخارجية بأنّها عاملٌ يأتي من خارج المنظومة الاقتصادية الأساسية، ولا يمكن إرجاعه بسهولة إلى تغيّرات في الطلب أو العرض المحلي أو مؤشرات اقتصادية كالوظائف والتضخم. قد تكون كارثة طبيعية، أو انهيارًا مفاجئًا في أسعار السلع العالمية، أو تشريعًا حكوميًا يُفرض بشكل غير متوقع دون أن تعكسه العوامل الاقتصادية الداخلية.
الصدمة الداخلية
أمّا الصدمة الداخلية، فهي تنبثق من داخل المنظومة ذاتها، وتتأثّر بتفاعلات العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحلية. قد ينجم تغيير في السياسات التجارية مثلًا عن ضغوط من قطاعات صناعية متضرّرة أو عن تردّي مستوى التوظيف، فيصبح القرار السياسي استجابة مباشرة لتحرّكات في المؤشرات أو لمطالب شعبية.
من هذا المنطلق، قد تبدو الرسوم الجمركية التي أعلنها ترامب “خارجية” للوهلة الأولى، نظرًا لعامل المفاجأة والاضطراب الذي أحدثته في الأسواق العالمية دون ارتباط مباشر بدورات العرض والطلب المحلية. غير أنّ جذورها تتصل بأهداف ومصالح داخلية كالحدّ من العجز التجاري وحماية الوظائف في قطاعات صناعية معيّنة، فضلًا عن الوعود الانتخابية والضغط السياسي. وبالتالي، يمكن عدّها “داخلية” في سياق أوسع.
ثانيًا: لماذا يؤثّر هذا التصنيف على التحليل الاقتصادي؟
1. التوقّعية واستجابة الأسواق
في حالة الصدمة الخارجية: غالبًا ما تفاجئ هذه الصدمات الشركات والمستهلكين، إذ لا يستند توقيتها إلى بيانات واضحة يمكن للمشاركين في السوق أن يترقّبوها أو يخطّطوا لها مسبقًا.
في حالة الصدمة الداخلية: قد ترصد الشركات والمؤسسات إشارات مسبقة كالخطاب السياسي والتوجّهات الانتخابية أو التغيّرات المتوقّعة في المؤشرات الاقتصادية. فتُبنى استراتيجيات للتكيّف أو التحوّط من هذه القرارات.
2. آليات التفاعل واستجابات الانتقام التجاري
عندما تُعامل الرسوم الجمركية كصدماتٍ خارجية: تنظر النماذج إلى القرار على أنّه مفروض فجأة، فتسلّط الضوء على رد فعل الأسواق المحلية والدولية، بما في ذلك ردود الفعل الانتقامية من دول أخرى.
عندما تكون الرسوم الجمركية صدمات داخلية: تدخل العوامل السياسية والاقتصادية في دائرة التأثير المتبادل. فانتقاد المزارعين أو المصنّعين لرسوم معيّنة قد يولّد ردودًا سياسية سريعة ترفع الرسوم أو تخفّضها، ما يخلق حلقةً من التفاعل المتواصل بين صُنّاع القرار والقطاعات المتأثّرة.
3. توزيع الأعباء والمكاسب
في التحليل القائم على صدمة خارجية: غالبًا ما يُقدَّر تأثير الرسوم الجمركية بشفافية أكبر على المدى القصير، من حيث ارتفاع أسعار الواردات وتكاليف الإنتاج، وتأثير ذلك على المستهلكين والمنتجين.
في التحليل الذي ينظر إلى العوامل الداخلية: قد يجري التركيز على كيفية تفاعل الرسوم الجمركية مع الضغوط الانتخابية واللوبيات الصناعية، فضلًا عن المكاسب التي تحظى بها قطاعات محميّة على حساب قطاعات أخرى. ما قد يوصلنا إلى استنتاجات أكثر تعقيدًا بشأن الدورات السياسية – الاقتصادية المستمرة.
4. الدروس والسياسات المُستخلَصة
نهج الصدمة الخارجية: قد يركّز على احتواء التأثير فور وقوعه، عبر إجراءات سريعة كالدعم الحكومي لبعض القطاعات المتضرّرة أو إجراءات نقدية للحدّ من آثار التضخم أو تبعات الركود.
نهج الصدمة الداخلية: يسلّط الضوء على جذور المشكلة، مثل الاختلالات في تركيبة الاقتصاد المحلي أو عدم توزيع مكاسب التجارة بطريقة عادلة. ما يفتح مجالًا لمراجعة السياسات الاقتصادية والصناعية على المدى الطويل بدل الاكتفاء بتدخّلات ظرفية.
ثالثًا: رسومات ترامب الجمركية بين النموذجين
تمنح تجربة ترامب مثالًا غنيًا على التداخل بين الصبغة الخارجية والداخلية. ففي النماذج التجارية، تُعامل الرسوم الجمركية الضخمة عادةً كصدمات خارجية غير منبثقة من تفاعلات السوق المعتادة. ويتيح هذا المنظور رصد التأثير المباشر على التبادل التجاري الدولي وسلاسل التوريد، ورصد ما يرافق ذلك من ضغوط تضخمية أو تغيرات في معدلات التوظيف.
إلّا أنّ الوعود الانتخابية والحاجة السياسية إلى حماية بعض الصناعات المحلية تُشير بوضوح إلى جذور داخلية دفعت بالقرار. وفي الواقع، أدّت هذه الرسوم إلى ردود فعل انتقامية من دول أخرى، وزادت من الانقسامات الداخلية بشأن جدوى المواجهة التجارية. فلو تمّ تجاهل المكوّن الداخلي في تفسير هذه الرسوم، لصعب تبيان لماذا أُقِرَّت في ذلك التوقيت بالذات، ولماذا شملت قطاعات معيّنة دون غيرها، وكيفية استمرارها أو تعديلها.
رابعًا: الخلاصة
إنّ التفريق بين الصدمة “الخارجية” و”الداخلية” ليس نقاشًا نظريًا وحسب، بل خطوة أساسية لفهم ما يحدث على أرض الواقع عند فرض الرسوم الجمركية. فاعتبار الرسوم الجمركية “خارجية” يساعد في نمذجة الآثار المباشرة على الأسعار والتجارة والنمو. أمّا تصنيفها “داخلية” فيبيّن لنا كيف تتولّد من تفاعلات سياسية واقتصادية داخلية، وكيف يمكن أن تستمر وتتعقّد عبر الزمن بفعل الترابط المتبادل بين الاقتصاد وصُنّاع القرار.
في حالة ترامب، التناول الواسع للرسوم الجمركية يظهر بداية وكأنّه صدمةٌ مفاجئة، لكنّ دوافعها السياسية والاقتصادية المحلية تضعها في خانة السياسات المنبثقة من حسابات الداخل الأميركي. وبالنسبة لقطاع الأعمال والمستثمرين، فإنّ فهم هذه الأبعاد ضروري لتوقع الخطوات المقبلة وقياس مدى استدامة السياسات التجارية الجديدة أو احتمالية التراجع عنها.
وبينما تواصل دول العالم مراجعة سياساتها في ظل المتغيّرات الجيوسياسية والاقتصادية، يبقى درس جوهري: ينبغي عدم الاكتفاء بمراقبة الرسوم والإجراءات التجارية خارج الحدود، بل من الحكمة أيضًا رصد الأجواء السياسية والاقتصادية الداخلية التي تغذّي أو تقيّد قرارات صُنّاع السياسة. ففي النهاية، الرسوم الجمركية ليست مجرد نسب مفروضة على الواردات، بل أدواتٌ تعكس ديناميكية السياسة والاقتصاد وتترك بصمتها على طريق النمو والاستقرار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال