الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تمثل الرقابة الفعالة على الغذاء والدواء حجر الأساس في حماية صحة المجتمع وتعزيز ثقة المستهلك، وهو ما يجعل الهيئة العامة للغذاء والدواء تلعب دورًا محوريًا في ضمان جودة المنتجات المتداولة في السوق السعودي. ومع توسع التجارة الدولية وزيادة تدفق المنتجات عبر المناطق الحرة، أصبح من الضروري تطوير التشريعات لتعزيز الرقابة، بما يمكن الهيئة من تحقيق هدفها بأن تصبح الجهة الرقابية الأولى عالميًا في مجال الغذاء والدواء، كما أكد معالي الرئيس التنفيذي للهيئة د. هشام الجضعي في برنامج “في الصورة” مع الإعلامي المتميز عبدالله المديفر.
في سبيل تحقيق هذا الهدف، تبذل الهيئة جهودًا مكثفة في الفحص المخبري للمنتجات، وتطبيق معايير صارمة على المستوردين، واتخاذ إجراءات رقابية مشددة لضمان عدم تداول المنتجات غير المطابقة، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الاستيراد والكشف عن المنتجات المشبوهة قبل دخولها السوق. ومن بين الخطوات التنظيمية التي تبنتها الهيئة، إلزام المنتجين بتمييز المنتجات الشبيهة، مثل الحليب والجبن ومثيلاتهما، والتي تختلف في بعض مكوناتها وتكلفتها عن المنتجات الأصلية، مما يساعد المستهلك على التفرقة بينها بوضوح وتفادي الادعاءات المضللة. ورغم أن هذه المنتجات تحقق معايير السلامة الغذائية، إلا أن الهيئة ألزمت بتمييزها تعزيزًا للمصداقية وحماية لحقوق المستهلك، وهو ما يمثل ريادة تنظيمية على المستوى الدولي. ويمكن للهيئة أن تطبق ذات النهج على المنتجات المصنّعة في بعض الدول المجاورة، من خلال إبراز الفروقات بينها وبين المنتجات الأصلية المصنعة في الدول المتقدمة في صناعة الغذاء، مما يعزز الشفافية ويمكّن المستهلك من اتخاذ قرارات واعية عند الشراء.
ولا يقتصر أثر هذه الإجراءات على حماية المستهلك فقط، بل تمتد فوائدها إلى تعزيز جاذبية السوق السعودي للاستثمارات العالمية، إذ أن وجود بيئة تنظيمية صارمة وواضحة يسهم في رفع جودة المنتجات المتاحة، مما يرفع من تنافسية الشركات المحلية ويحفز الشركات العالمية على الاستثمار في المملكة والالتزام بأعلى معايير الجودة. فعلى سبيل المثال، ساعدت التشريعات الصارمة في أسواق مثل سنغافورة وكندا على استقطاب كبرى الشركات العالمية، التي فضّلت الامتثال لهذه المعايير لضمان استمرارها في الأسواق ذات البيئة التنظيمية القوية. ومن خلال تطوير الأنظمة الحالية، يمكن للمملكة أن تصبح مركزًا عالميًا لصناعة الأغذية والأدوية وفق أعلى المعايير.
جاء انتخاب الهيئة العامة للغذاء والدواء نائبًا لرئيس هيئة الدستور الغذائي الدولية لعام 2024 كإنجاز يعكس مكانة المملكة في مجال سلامة الغذاء عالميًا. ويعزز هذا الاختيار دور الهيئة في تطوير المواصفات الغذائية ومواءمتها مع أفضل المعايير الدولية، كما يمنحها فرصة للاستفادة من التواجد في هذه المنظمة العالمية لتعزيز الرقابة على الغذاء والدواء، ورفع كفاءة الإجراءات التنظيمية، والاطلاع على أحدث الممارسات والتشريعات الدولية، مما يسهم في حماية المستهلك، وتحقيق أعلى معايير السلامة، وترسيخ ريادة المملكة في الرقابة الصحية. ويتيح هذا التقدم تبني استراتيجيات رقابية أكثر صرامة، وتطوير تشريعات تكفل تحقيق التكامل بين المعايير الوطنية والدولية، بما يعزز الثقة في السوق السعودي ويضمن توافق المنتجات مع أفضل المعايير العالمية.
ورغم هذه الجهود، لا تزال هناك تحديات تستوجب حلولًا تنظيمية وتشريعية، من أبرزها تفاوت جودة المنتجات المستوردة حسب بلد المنشأ والمناطق الحرة، حيث تختلف معايير التصنيع رغم حملها لنفس العلامة التجارية، كما هو الحال في بعض المنتجات المصنّعة في جبل علي مقارنة بنظيراتها الأوروبية. إضافة إلى ذلك، فإن عدم وضوح بيانات بلد التصنيع يُضعف قدرة المستهلك على اتخاذ قرارات مستنيرة، كما أن وجود ثغرات تشريعية يسمح لبعض الشركات بتسويق منتجات أقل جودة دون عقوبات كافية، مما يستدعي تكاملًا أكبر بين الجهات الرقابية لضمان عدم دخول المنتجات غير المطابقة إلى السوق السعودي، بالإضافة إلى اختبار المنتجات المعروضة في الأسواق بشكل مستمر.
وبالنظر إلى أن السوق السعودي سوق ناشئ يمثل الشباب فيه الأغلبية العظمى من المستهلكين، وكون الوصول إلى مجتمع حيوي هو أحد الركائز الرئيسية لرؤية المملكة 2030، فإن تمكين المستهلك من الوصول إلى معلومات دقيقة حول جودة المنتجات وقيمتها الغذائية يعد جزءًا أساسيًا من الدور المأمول للهيئة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال نشر قوائم بالمنتجات التي تختلف في تركيبتها عن نظيراتها في الأسواق العالمية، ودراسة أفضل الممارسات في مجال توعية وتمكين المستهلك مما يساعد على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا. فعلى سبيل المثال، تبنت بعض الدول أنظمة متقدمة في تصنيف جودة المنتجات الغذائية، مثل نظام نوتري-سكور الذي طُور في فرنسا وانتشر في عدة دول في الاتحاد الأوروبي، حيث يعتمد على تصنيف الأطعمة بألوان تتراوح من الأخضر (A – صحي) إلى الأحمر (E – أقل صحة)، ليسهّل على المستهلكين اتخاذ قرارات غذائية أفضل. وبالإضافة إلى ذلك، هناك أنظمة مشابهة مطبقة في سنغافورة، مثل “Healthier Choice Symbol”، الذي يُلزم الشركات بوضع علامات واضحة على المنتجات الأكثر فائدة صحيًا، مما ساهم في توجيه المستهلكين نحو خيارات غذائية أفضل. وإذا تم تطبيق مثل هذه المبادرات في المملكة، فستؤدي إلى رفع جودة المنتجات وتحفيز الشركات على تحسين مكوناتها.
كما يؤمل توسيع نطاق التشريعات لتشمل المنتجات الغذائية والدوائية المباعة عبر منصات التجارة الإلكترونية، نظرًا للتزايد الملحوظ في عمليات الشراء عبر الإنترنت. فتخضع المنتجات المباعة رقميًا لنفس معايير الجودة والسلامة المطبقة على المنتجات المتوفرة في الأسواق المحلية، مع فرض التزامات على المنصات الإلكترونية الكبرى مثل أمازون ونون وغيرها للإفصاح عن بلد المنشأ لكل منتج، والتأكد من توافقه مع معايير الهيئة. إضافة إلى ذلك، يمكن للهيئة فرض آليات رقابية متقدمة تتيح تتبع مصادر المنتجات الرقمية، وفحص عينات منها عشوائيًا لضمان عدم تسرب منتجات غير مطابقة إلى المستهلكين في المملكة.
وفي هذا الإطار، ينبغي تعزيز جهود التوعية بالتكامل مع الجهات ذات العلاقة من خلال حملات إعلامية واسعة النطاق، تهدف إلى تعليم المستهلك كيفية قراءة الملصقات الغذائية، وفهم الفروقات بين المنتجات المختلفة، والتعرف على البدائل الصحية. كما يمكن تنفيذ برامج تثقيفية في المدارس والجامعات لتعزيز الثقافة الغذائية الصحية، مما يسهم في رفع مستوى وعي الجيل الجديد حول أهمية اختيار المنتجات ذات الجودة العالية وتأثيرها على الصحة. إضافة إلى تعزيز التعاون مع هيئات تنظيمية دولية لتنسيق الجهود في مجال التجارة الإلكترونية، وإنشاء قاعدة بيانات مشتركة للمنتجات المخالفة، بما يسهم في تحسين الرقابة على المنتجات المستوردة وتوفير بيئة تسوق إلكترونية أكثر أمانًا.
إلى جانب تطوير هذه الإجراءات، من المهم أيضًا تعزيز استقلالية الهيئة العامة للغذاء والدواء ومنع أي تعارض مصالح قد يؤثر على فعاليتها. ولتحقيق ذلك، ينبغي تعديل التشريعات لمنع الجمع بين منصب الرئيس التنفيذي للهيئة والعضوية في مجالس إدارات أي شركة غذائية أو دوائية، حتى وإن كانت مملوكة للحكومة، نظرًا لما قد يترتب على هذا الجمع من تأثيرات سلبية على نزاهة القرارات الرقابية وحيادية تطبيق المعايير. ويعزز هذا الفصل بين الوظائف ثقة الجمهور في دور الهيئة، ويضمن أن تصب جميع القرارات التنظيمية في مصلحة حماية المستهلك دون أي تأثير من المصالح التجارية.
ختاماً: إن تطوير التشريعات لا يعد مجرد إجراء تنظيمي، بل هو استثمار استراتيجي في تحسين جودة المنتجات الغذائية والدوائية، مما ينعكس إيجابيًا على صحة المستهلكين، ويحد من المخاطر الصحية المرتبطة ببعض المضافات الصناعية. كما يسهم في تعزيز ثقة الأفراد والشركات التجارية بالسوق السعودي، ويدفع الشركات العالمية إلى الامتثال للمعايير الأكثر صرامة، مما يعزز مكانة المملكة كمركز متقدم في الرقابة على الغذاء والدواء، ويفتح المجال أمام استثمارات نوعية تسهم في تطوير القطاع. وفي ظل المتغيرات المتسارعة في التجارة العالمية، يصبح تبني أنظمة رقابية استباقية قائمة على الشفافية والتكامل مع الجهات الدولية أمرًا ضروريًا لضمان تحقيق أعلى مستويات السلامة والجودة. ومن خلال هذه الإصلاحات، يمكن للهيئة العامة للغذاء والدواء بلوغ هدفها بأن تصبح الجهة الرقابية الأولى عالميًا، وتعزيز ثقة المستهلك في جودة المنتجات المتوفرة في السوق السعودي، مما يرسخ مكانة المملكة كدولة رائدة عالميًا في مجال سلامة الغذاء والدواء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال