الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هفي تلك الليلة الباردة من شتاء عام 1902، حين اقتحم الملك عبدالعزيز ورجاله الرياض واستعادها بتوفيق الله وعنايته ،لم يكن يحمل في قلبه مجرد حلم باستعادة ملك آبائه، بل كان يحمل في صدره رؤيا لوطنٍ شامخ، دولةٍ تمتد جذورها في الأرض وتمضي بثبات نحو المستقبل. لم يكن يعلم أهل الرياض حينها أن هذه اللحظة ستغير مجرى التاريخ، وأن المدينة التي تحاصرها أسوار الطين ستتحول يومًا إلى إحدى أسرع المدن نموًا في العالم، تنبض بالحياة وتزخر بالإنجازات التي لم تكن تخطر على بال أحد.
لو قُدّر للملك المؤسس أن يمتطي جواده “عبيّه” مرة أخرى، ويجوب شوارع الرياض، لرأى عاصمةً تغيرت ملامحها، لكنها لم تبتعد عن روحها. مدينةٌ عظيمةٌ تجسّد رؤيته وتحقق أحلامه التي بدت يومًا ضربًا من الخيال.
من مدينة صغيرة بالكاد تتسع لسكانها، تحيطها أسوار من الطين، تغفو على ضوء القناديل، ويعتمد أهلها على قوافل الجِمال في تنقلهم، تحولت الرياض اليوم إلى قلبٍ حديثٍ للعالم العربي، ومدينة عالمية تعانق ناطحات السحاب سماءها. يخترقها “مترو الرياض”، الذي تم افتتاح المرحلة الأولى منه في ديسمبر 2024، ليكون أحد أضخم مشاريع النقل في العالم.
لو سار الملك عبدالعزيز اليوم في شارع العليا، لرأى برج المملكة وبرج الفيصلية يجاورانه كرموز لعصرٍ جديدٍ من الازدهار. ولو وقف على أطراف المدينة، لرأى المشاريع العملاقة التي تنطلق في كل اتجاه، مثل “مشروع المربع الجديد”، الذي يُعد نموذجًا لمدينة المستقبل، ممتزجًا بملامح من التراث الذي أرسى دعائمه بنفسه، ومن المتوقع اكتماله بحلول عام 2030.
حين أسس الملك عبدالعزيز المملكة، كانت البلاد تعتمد على التجارة والزراعة، لكن رؤيته البعيدة جعلته يسعى إلى بناء اقتصاد قوي. لو رأى اليوم أن السعودية أصبحت ضمن أكبر 20 اقتصادًا عالميًا (G20)، وأن صندوق الاستثمارات العامة يدير أصولًا تتجاوز 3.6 تريليون ريال سعودي، لأدرك أن بذور جهده أثمرت اقتصادًا عالميًا، لا يعتمد فقط على النفط، بل يمتد إلى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والسياحة والاستدامة.
ولعل مشهد مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” الذي يُعقد سنويًا في الرياض، ويجمع زعماء الاقتصاد العالمي، سيكون أحد الأمور التي ستجعل الملك عبدالعزيز يبتسم بفخر، مدركًا أن وطنه لم يعد فقط موطنًا للتجار القادمين من نجد والحجاز، بل أصبح وجهةً عالميةً للاستثمار وصنع القرار الاقتصادي.
كان الملك عبدالعزيز يؤمن بأهمية العلم، ولذا أنشأ أول مدرسة نظامية عام 1935، وأرسل البعثات العلمية للخارج، وهو القائل: “المعرفة هي مفتاح النهضة.” ولو رأى اليوم أن جامعات مثل جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST)،تُصنّف ضمن أفضل الجامعات عالميًا، وأن الرياض أصبحت مقرًا لمؤسسات بحثية عملاقة في الذكاء الاصطناعي والطب والهندسة، لرأى أن حلمه في بناء أمة متعلمة قد أصبح واقعًا يفوق التوقعات.
بل لو دخل أحد قاعات “نيوم”، المشروع المستقبلي الذي يُعد نموذجًا للمدن الذكية، ورأى شباب الوطن يقودون أبحاثًا في الروبوتات والطاقة المتجددة، لعلم أن رؤية المستقبل التي غرسها قد أينعت، وأن جيل اليوم لم يكتفِ بالحفاظ على الإنجاز، بل بات يصنع تاريخًا جديدًا.
منذ أن دخلها فجرًا على صهوة جواده، والرياض لم تتوقف عن التغيير. كانت مدينةً صغيرةً بالكاد تتسع لسكانها، فأصبحت اليوم ضمن أكثر المدن نموًا في المنطقة، وفق تقرير الأمم المتحدة. في الماضي، كانت الشوارع تُضاء بالفوانيس، واليوم تضيئها الطاقة الشمسية الذكية. في الماضي، كانت التجارة تتم عبر الأسواق الشعبية، واليوم تستضيف الرياض أكبر مراكز التسوق والأسواق المالية في المنطقة. في الماضي، كان التنقل على ظهور الدواب، واليوم شبكة الطرق السريعة تربطها بمختلف مدن المملكة، والمطارات الحديثة تجعلها نقطة وصل بين الشرق والغرب.
لكن الأهم من ذلك، أن روح الرياض بقيت كما أرادها الملك عبدالعزيز، مدينة تجمع العراقة بالحداثة، تحافظ على هويتها الإسلامية والعربية، وتفتح أبوابها للعالم بروحٍ طموحة.
قد يقف طويلًا يتأمل هذا التحوّل، وقد يبتسم بفخر، لكنه بلا شك، سيقول كما قال يوم دخلها لأول مرة: “اللهم لك الحمد.”
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال