الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مراحل متعددة مرت بها الصين حتى وصلت إلى ما هي عليه، فتلك البلاد التي باتت من الدول العظمى اليوم مرّت بتاريخ طويل صعب وشاق. في عام 1978، كانت الصين دولة تعتمد بشكل أساسي على الزراعة، حيث كان سكان الريف يشكلون أكثر من 80٪ من إجمالي السكان، وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 156 دولارًا أمريكيًا، وهو ما يُعدّ أقل بكثير من نصيب الفرد في عدد من الدول الإفريقية. في ذلك الوقت، كانت الصين تعاني من الفقر والتخلف، ولكن في غضون بضعة عقود فقط، لم تخرج من دائرة الفقر فحسب، بل قفزت لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأصبحت قوة شرقية تلفت الأنظار. فكيف حدث كل هذا؟
الخطوة الأولى نحو كسر القيود
في عام 1978، طرح الزعيم الصيني “دنغ شياو بينغ” مفهوم الإصلاح والانفتاح، وهي السياسة التي غيّرت مصير الصين بشكل جذري. لم يكن الإصلاح والانفتاح مجرد تعديل في السياسات الاقتصادية، بل كان أيضًا حركة لتحرير العقول والأفكار. بدأت الصين في كسر قيود الاقتصاد المخطط، وأدخلت آليات السوق، وسمحت بنمو القطاع الخاص. وقد حفّز هذا القرار حيوية المجتمع بسرعة كبيرة. وفي غضون سنوات قليلة فقط من تنفيذ هذه السياسة، شهد الاقتصاد الصيني نهضة سريعة، حيث امتدت رياح الإصلاح من الريف إلى المدن، ووصلت إلى جميع أنحاء الصين.
ولادة “مصنع العالم”
بعد الإصلاح والانفتاح، استغلت الصين الفرصة التي أتاحتها عملية انتقال الصناعات عالميًا، وبفضل وفرة الأيدي العاملة الرخيصة وسوقها الضخم، سرعان ما أصبحت “مصنع العالم”. من الملابس والألعاب إلى المنتجات الإلكترونية، بدأت المنتجات المصنوعة في الصين تغزو الأسواق العالمية. وتعد مدينة “شنجن” التي كانت مجرد قرية صيد صغيرة، والتي تحولت في غضون عقود قليلة إلى مركز عالمي للابتكار التكنولوجي، مثالا على إرادة الصين في النهوض، إذ أصبحت نموذجًا يعكس ازدهار الصناعة التحويلية في الصين. ففي أوائل التسعينيات، كانت “شنجن” لا تزال أرضًا قاحلة، فهي مثال على تحقيق نمو المدن وازدهارها بدءا من الصفر. إذ ساهم قطاع التصنيع الصيني في تحقيق نمو اقتصادي سريع، وخلق أيضًا ملايين الوظائف، مما ساعد مئات الملايين من الناس على الخروج من دائرة الفقر.
من التقليد إلى الريادة
مع التطور السريع للاقتصاد، أدركت الصين أن الاعتماد فقط على الصناعات التحويلية منخفضة التكلفة لن يكون كافيًا لتحقيق التنمية المستدامة. لذا، بدأت في تعزيز الابتكار التكنولوجي بشكل كبير، واستثمرت مبالغ ضخمة في البحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا الفائقة. من القطارات فائقة السرعة إلى شبكات الجيل الخامس، ومن الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، نجحت بكين في التحول من “الملاحق” إلى “المنافس” بل وحتى إلى “المتصدّر” في بعض المجالات.
وهنا لا بد من ذكر أنه قبل عشر سنوات فقط، كانت الصين لا تزال تقلد التقنيات الأجنبية، أما الآن فقد أصبح لها تقنياتها الخاصة بشبكات الجيل الخامس مثلا والتي هي في طليعة العالم. هذا التغيير لم يكن مجرد تقدم تكنولوجي، بل كان أيضًا تعزيزًا للثقة بالنفس. لم يؤدِ الابتكار التكنولوجي إلى دفع عجلة التحول الاقتصادي فحسب، بل عزز أيضًا مكانة الصين على الساحة الدولية.
من مشارك إلى قائد عالمي
لم تقتصر إنجازات الصين على الجانب الاقتصادي فقط، بل أصبحت تلعب دورًا نشطًا في الحوكمة العالمية، وتسهم في دفع عجلة العولمة. فمن الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) إلى إطلاق مبادرة “الحزام والطريق”، تحولت الصين تدريجيًا من مجرد مشارك في العولمة إلى قائد فيها. ومن خلال تعزيز التعاون مع الدول الأخرى، لم توسع الصين نطاق نفوذها فحسب، بل ساهمت أيضًا في دفع عجلة النمو الاقتصادي العالمي.
يقول أحد الدبلوماسيين الصينيين المقيمين في الخارج: “قبل عشر سنوات، كانت الصين في المؤتمرات الدولية مجرد مستمع، أما اليوم فقد أصبحت من أبرز المتحدثين والمؤثرين. صعود الصين لم يكن مجرد صعود اقتصادي، بل كان أيضًا تعزيزًا لقوتها الخطابية ومكانتها الدولية”.
من دولة زراعية إلى قوة شرقية عظمى، لم يكن صعود الصين محض صدفة، بل كان نتيجة لسلسلة من القرارات الصائبة والجهود الدؤوبة. فقد كسرت سياسة الإصلاح والانفتاح القيود المؤسسية، وأسست الصناعة التحويلية قاعدة اقتصادية قوية، ودفع الابتكار التكنولوجي عجلة التحول والتحديث، فيما عززت الاستراتيجية العالمية مكانة الصين الدولية. لم يكن نجاح الصين مجرد نجاح لدولة واحدة، بل كان انتصارًا لنموذج تنموي فريد أثبت فعاليته، على أمل أن تستفيد منه الدول الأخرى وتحديدا الدول العربية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال