الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يعد نظام التخطيط العمراني عنصرًا أساسيًا في تحقيق التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة في المدن، حيث يسهم في توجيه التنمية الحضرية بطريقة تتناغم مع الاستراتيجيات الوطنية والإقليمية والمحلية. ومع تزايد التحديات العمرانية والاقتصادية والاجتماعية، باتت الحاجة إلى تطوير نظام موحد أكثر إلحاحًا لمعالجة تقادم أنظمة التخطيط الحالي التي لم تحدث منذ قرابة خمسين سنة وعدد كبير من التعاميم ذات العلاقة التي استهدفت تدارك تقادم الأنظمة بشكل غير متناسق حتى أصبح إستيعابها والإحاطة بها تحديا للجهات البلدية بمختلف مستوياتها، مما يتطلب توفير إطار تشريعي متكامل يضمن كفاءة إدارة المدن ويعزز التكامل بين مختلف الجهات المعنية بالتنمية.
وفي هذا السياق، جاءت مبادرة “تطوير الأنظمة والمعايير ذات الصلة بالتخطيط العمراني الوطني” التي أطلقتها وزارة البلديات والإسكان ضمن مبادرات رؤية السعودية 2030، وتهدف إلى توحيد المعايير التخطيطية وتحقيق انسجام أكبر بين الجهات التنظيمية، ما يسهم في تحقيق رؤية متكاملة لتطوير المدن السعودية ورفع كفاءتها الاقتصادية والاجتماعية. ويعكس ذلك الحاجة إلى اعتماد نظام تخطيط مرن يتعامل مع مستجدات العصر، يعزز من الاستخدام الأمثل للأراضي، ويدعم التوسع العمراني المنظم، ويحد من العشوائية التي تؤثر على جودة الحياة، ويضمن توفير بيئة حضرية متكاملة تتيح للسكان حياة أفضل من حيث جودة السكن والخدمات والمرافق العامة، ويرتقي بمدننا إلى مصاف مدن الدول العشرين الرائدة إقتصاديا.
وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرة، فإن تأخر إقرار مشروع نظام التخطيط العمراني يؤدي إلى استمرار العشوائية في التخطيط وعدم تناسق القرارات التنظيمية، مما يعوق تنفيذ المشاريع الكبرى ويؤثر على جاذبية الاستثمار العقاري والتنمية الاقتصادية لتلك المشاريع بوحه خاص والتنمية الحضرية بشكل عام. . غياب إطار تنظيمي موحد ينعكس سلبًا على قدرة المدن على استيعاب النمو السكاني والتوسع العمراني بطريقة منظمة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف تنفيذ المشاريع، وتراجع جودة الخدمات الحضرية، وزيادة الضغط على البنية التحتية. الإسراع في إقرار هذا النظام يعد ضرورة اقتصادية واجتماعية لضمان تنمية حضرية مستدامة وتحفيز الاستثمارات في القطاعات العقارية والبنية التحتية، حيث إن التنظيم الفعال للمناطق الحضرية يسهم في تحسين البيئة الاستثمارية، وتعزيز التنمية المتوازنة، ودعم الجهود الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية الحضرية المستدامة. علاوة على ذلك، فإن التخطيط العمراني الحديث لا يقتصر فقط على تنظيم المساحات الحضرية، بل ينعكس إيجابًا على حياة السكان من خلال تعزيز كفاءة النقل، وتوفير الخدمات الأساسية، وزيادة المساحات الخضراء، ما يسهم في تحسين الصحة العامة وتقليل التلوث الحضري، فضلاً عن دوره في تقليل الفجوات السكنية، وتعزيز سهولة الوصول إلى المرافق العامة، وتحسين الربط بين المدن والمناطق الريفية، مما يرفع من مستوى العدالة الحضرية بين مختلف مناطق المملكة. وما نراه اليوم من جهود جبارة لعلاج سلبيات تقادم نظام التخطيط مثل الرياض الخضراء، والمشاريع المليارية التي تطبق أحدث معايير التخطيط المعاصر، وإزالة العشوائيات ومكافحة التشوه البصري ورفع معدلات المشهد الحضري، محاولات لسد العجز في نظام التخطيط المتقادم وبتكلفات عالية مرهقة للإقتصاد العمراني للمدن بشكل خاص والاقتصاد الوطني بشكل عام.
وفي هذا الإطار، أكد الدكتور فيصل المبارك، أحد الرموز الوطنية البارزة في مجال التخطيط العمراني، في ثريد له على حسابه في X (تويتر سابقًا)، على أهمية تحديث نظام التخطيط العمراني، محذرًا من تأثير استمرار منظومة القرارات الحالية التي تمنح ملاك الأراضي مبدأ مردود “عقاري” دون تطبيق معايير الاستدامة أحد أهم مرتكزات رؤية 2030. وأوضح أن هذا القرار يؤدي إلى إعاقة التنمية العمرانية المستدامة ويحد من إيجاد بيئات عمرانية معاصرة ويعرقل تنفيذ المخططات الاستراتيجية التي استثمرت فيها الدولة مليارات الريالات. وأشار إلى أن الحل يكمن في الإسراع بتحديث نظام التخطيط العمراني المتقادم، بحيث يشمل تبني التخطيط المتكامل للأحياء، الذي يضمن بيئة حضرية أكثر تنظيمًا واستدامة. وهذا يتوافق مع الحاجة إلى إعادة صياغة الأنظمة الحالية لتتواكب مع التغيرات السكانية والاقتصادية، وضمان تكامل الجهود بين الجهات المسؤولة عن التخطيط والتنمية العمرانية.
كما أن التجارب الدولية تؤكد أهمية وجود نظام تخطيط عمراني مرن ومتجدد، كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا، حيث تعتمد هذه الدول على أطر قانونية متطورة تتيح مراجعة الأنظمة بشكل دوري بمتوسط عشر سنوات لضمان توافقها مع المتغيرات السكانية والاقتصادية والتقنية. في بريطانيا، يستند التخطيط العمراني إلى “الإطار الوطني للتخطيط” (NPPF)، الذي يوفر مرونة في تعديل السياسات بما يتماشى مع احتياجات المدن والمناطق المختلفة، ويمتاز بالتخطيط اللامركزي، حيث تمتلك الحكومات المحلية سلطات واسعة في إعداد خطط التنمية الحضرية وفقًا لاحتياجات مجتمعاتها، مع الالتزام بالإرشادات الوطنية، إضافة إلى إشراك المواطنين والمستثمرين لضمان تحقيق تنمية متوازنة وإدارة استخدام الأراضي بفعالية. أما في فرنسا، فيعتمد التخطيط العمراني على “قانون التعمير” (Code de l’Urbanisme)، الذي يضع إطارًا قانونيًا شاملاً لتنظيم المدن، مع التركيز على التوازن بين النمو الحضري وحماية البيئة والتخطيط المستدام، حيث تخضع المدن الكبرى مثل باريس وليون ومرسيليا لمعايير تخطيطية صارمة تهدف إلى تقليل الازدحام وتحقيق كفاءة في إدارة الأراضي، كما يُعد التخطيط التوجيهي الإقليمي أداة رئيسية لتنسيق السياسات التخطيطية على مستوى المناطق، مما يعزز التكامل بين الجهات المختلفة، ويمنع التداخل في الصلاحيات، ويوجه الاستثمارات الحضرية بفعالية.
وعند مقارنة هذه التجارب مع أنظمة التخطيط العمراني في المملكة، يتضح أن أحد أبرز التحديات هو قدم الأنظمة البلدية لعقود دون تحديث جوهري، مما يجعلها غير متوائمة مع التطورات السريعة في البنية السكانية والاقتصادية والتكنولوجية. فهناك أنظمة قائمة تتضمن بعض الأحكام المتعلقة بالتخطيط العمراني، مثل نظام البلديات والقرى الصادر عام 1397 هـ، ونظام الطرق والمباني الصادر عام 1360 هـ، وعلى الرغم من أن هذين النظامين يشملان بعض الجوانب التنظيمية ذات الصلة بتخطيط المدن وتطوير بنيتها التحتية، إلا أنهما صدرا منذ عقود ولم يعودا كافيين لمواكبة المتغيرات الحضرية والاقتصادية والاجتماعية. الحاجة إلى مراجعة وتحديث هذه الأنظمة أصبح ضرورة إستراتيجية لضمان انسجامها مع متطلبات التنمية الحديثة، ما يتطلب تطوير إطار تشريعي أكثر تكاملًا يدعم تنفيذ نظام التخطيط العمراني الوطني المقترح، ويعزز من قدرة المدن السعودية على تحقيق أهدافها التنموية بشكل أكثر كفاءة وفعالية.
إضافة إلى ذلك، فإن تعدد الجهات المسؤولة عن التخطيط والتنمية العمرانية في المملكة أدى إلى تداخل التنظيمات والتشريعات، مما يستدعي إعادة النظر في الأطر التنظيمية الحالية لضمان التنسيق الفعّال والتكامل بين مختلف الجهات. الهيئات الملكية المشرفة على عدد من المدن الكبرى مثل الهيئة الملكية لمدينة الرياض، والهيئة الملكية للجبيل وينبع، والهيئة الملكية للعلا، والهيئة الملكية لمكة والمشاعر المقدسة، تتمتع بتنظيمات خاصة بصلاحياتها في إدارة التخطيط العمراني داخل نطاقها الجغرافي، في حين ساهمت هيئات تطوير المناطق بأدوار رئيسية في التخطيط والتنمية الحضرية. رغم أهمية هذه الهيئات في دفع عجلة التنمية، إلا أن تداخل صلاحياتها مع أنظمة البلديات ترتب عليه تحديات تنظيمية تعيق التنفيذ الفعّال للمشاريع وتناغم الميزانيات بين الجهات ذات العلاقة، مما يبرز الحاجة إلى مراجعة الأنظمة البلدية القائمة وتطويرها لضمان انسجامها مع الأدوار المتنامية لهذه الجهات وتعزيز فعالية التنسيق وتحقيق التكامل فيما بينها.
ختامًا، من الأهمية بمكان الإسراع في إنجاز هذه المبادرة التي تأخرت طويلًا، وإقرار مشروع نظام التخطيط العمراني وتفعيله وفق أفضل الممارسات العالمية، لضمان تحقيق مستقبل حضري متوازن ومستدام يتماشى مع تطلعات رؤية المملكة 2030، ويعزز من تنافسية المدن السعودية عالميًا. والتأخر في تنفيذ هذا النظام قد يؤدي إلى تفاقم المشكلات الحضرية، وزيادة العشوائية في التخطيط، وارتفاع التكاليف الاقتصادية على الدولة والمواطنين، مما يجعل اتخاذ إجراءات حاسمة في هذا الشأن ضرورة ملحة تسهم في تحسين جودة الحياة، وخلق بيئة استثمارية جاذبة للمطورين والمستثمرين العقاريين، وتعزيز التنمية الحضرية المستدامة لتلبية تطلعات الأجيال القادمة. كما ينبغي أن يتضمن النظام آليات فعالة تمكّن المدن من تحمل مسؤولياتها التمويلية عبر تبني أحدث تطبيقات الحوكمة وتقليل الاعتماد على المركزية، وفي هذا السياق، يُقترح إعادة هيكلة العلاقة الحالية بين الوزارة والأمانات، بحيث يتم تعديل النسبة من 80/20 لصالح الوزارة إلى 20/80 لصالح الأمانات، مما يخفف العبء عن وزارة الشؤون البلدية والإسكان ويتيح لها التركيز على المستوى الاستراتيجي وإدارة نظام التخطيط الجديد، مع تقديم الدعم للجهات المحلية، بما في ذلك الهيئات والأمانات، وهو ما سيسهم في تسريع وتيرة التنمية المكانية وتعزيز بناء القدرات المحلية، بحيث تصبح المدن داعمًا قويًا للاقتصاد الوطني بدلًا من أن تكون عبئًا عليه. وتؤكد التجارب العالمية أن المدن التي حققت مستويات معيشية متقدمة هي تلك التي مُنحت صلاحيات واسعة مكّنتها من التميز عالميًا، لذا فإن تعزيز اللامركزية، وتمكين المدن من اتخاذ القرارات المناسبة لاحتياجاتها، سيزيد من كفاءتها، ويرفع من مستوى تنافسيتها، ويحقق أهداف التنمية المستدامة بكفاءة وفعالية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال