الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين أكتبُ عن وطني الحبيب، تتزاحمُ في رأسي بغزارة المعاني والأفكار، وتتسابقُ الجمل والحروف والكلمات، وتختلج نفسي بمشاعر كثيرة من الحب والفخر والاعتزاز والولاء والانتماء؛ لأنه بالنسبة لي ليس مجرد وطن كبقية الأوطان!! وليس هذا فقط لأنني أحبه، فكل الناس يحبون أوطانهم، لكن هذا الوطن المفدى فضلا عن كونه مهد الإسلام، ومهبط الوحي، فهو أيضا أرض العزة والكرامة، وموطن النبل والقيم ومكارم الأخلاق منذ نشأته.
ويوم التأسيس السعودي، الذي نحتفل به في الثاني والعشرين من شهر فبراير كل عام، مناسبة وطنية عظيمة تتجاوز كونها مجرد ذكرى تاريخية، بل هو يوم مجيد يعكس ويبين جذور المملكة العربية السعودية وأصالتها، ويشكّل نقطة تحول مفصلية في تاريخ الجزيرة العربية؛ لأنه اليوم الذي تَشكَّل فيه كيانٌ سياسي قوي واعدٌ ومستقر بعد قرونٍ من الضعف والتفكك والتناحر والانقسام عاشتها القبائل في هذه البقعة من العالم!!
إن يوم التأسيس السعودي يرسخ فينا روح الوحدة والولاء والانتماء، ويجسد مسيرة رحلة خالدة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون من العزم والإصرار على بناء وطن مزدهر ينعمُ بالرخاء والاستقرار بفضل الله تعالى أولًا، ثم بفضل حكمة قيادته الرشيدة، وولاء أبنائه المخلصين، إنها مسيرةُ المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود عام 1727م حتى يومنا هذا، ويومُ التأسيس ليس فقط لتذكر الماضي، بل هو تأكيدٌ لهذه المعاني العظيمة، وتعزيز للهوية الوطنية في أعماق الوجدان والعقل الجمعي لأبناء الوطن، وترسيخٌ لقيم الفخر والاعتزاز بتاريخ المملكة العريق في نفوسهم.
بدأت قصة يوم التأسيس السعودي مع تأسيس الدولة السعودية الأولى في الدرعية، إذ كان ذلك في الواقع نقطة تحول مفصلية في تاريخ شبه الجزيرة العربية؛ حيث كانت المنطقة في ذلك الوقت تعاني من التشتت والنزاع والصراعات القبلية التي لا تنتهي، بما يصاحبها من أعمال السلب والنهب، فضلًا عن انتشار الجهل وقلة الوعي، وضيق الأفق، وعدم الأخذ بأية أسباب للنهضة والاستقرار، وتخلُّف المجتمع آنذاك في كافة النواحي، بما في ذلك حتى الجانب الديني حيث انتشرت البدع والمظالم بين الناس، لكن الإمام محمد بن سعود لم يرضَ بهذا الوضع الذي تستشري فيه عوامل الضعف والانهيار، واستطاع أن يوحَّد القبائل تحت راية واحدة، وتمكَّن من تأسيس دولة قائمة على العدل والرحمة والاستقرار، ولم يكن ذلك مجرد بداية فقط لفترة من الهدوء بين القبائل المتصارعة، بل كانت هذه اللحظة التاريخية بمثابة بعث جديد للقبائل العربية في هذا المكان، إذ كتب الله تعالى لها في رحم الغيب عنده أن تكون نقطة انطلاق مجيدة لمسيرة طويلة من العز والفخر والتطور والازدهار، مسيرة مشرفة عاشها أبناء هذا الوطن المفدى على مدى القرون الثلاثة الماضية.
اليوم ومع انتشار العمران والتقدم والازدهار، وتبوُّء المملكة العربية السعودية هذه المكانة العالية بين الأمم ينبغي للأحفاد أن يدركوا قيمة ما بذله الأجداد من جهودٍ وتضحيات بالغالي والنفيس حتى نصل إلى هذه المنزلة الرفيعة، وتتبوَّأ مملكتُنا الحبيبة ما تستحقه من مكانة بين الأمم الرائدة في هذا العصر، ومن هنا ينبغي ألا تمر ذكرى يوم التأسيس مرورًا شكليًّا عابرًا تصحبُه بعضُ المظاهر الصاخبة للاحتفالات الشكلية، بل يجبُ مع كل مظاهر الاحتفال هذه – وهي مطلوبة ومهمة – أن لا يغيب عن بال الأجيال الجديدة أن يوم التأسيس هو رمز مهم للوحدة الوطنية التي تجمع السعوديين تحت مظلة واحدة، وينبغي أن يظل هذا اليوم دافعًا ومحفزًا وملهمًا لامتلاك كل عوامل القوة والتقدم والازدهار التي تفرضها علينا روح العصر، فكما كان أجدادنا فرسانًا بواسل قهروا الصعاب، وتحدوا كل أسباب الضعف والتخلف والتفكك والانهيار، ينبغي لنا أن نمتلك أدوات العصر من العلم والبحث العلمي الجاد لتحقيق التفوق والسيادة الوطنية في المجالات الحساسة التي تحدد مصير الأمم الآن(!!) مثل الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وامتلاك التفوق المطلوب في جميع مجالات المعرفة البشرية الحالية والمستقبلية، وفي مقدمتها القدرة على التعامل مع التقدم المذهل في علوم البيانات لنتمكن من الحفاظ على مقدرات وممتلكات هذا الوطن العظيم ومستقبل أبنائه.
وأود التأكيد هنا على أن يوم التأسيس يمثل فرصة مناسبة جدًا لتعزيز مشاعر الفخر والانتماء لدى المواطنين، خاصة الأجيال الجديدة، حيث يُعرّفهم بجذورهم التاريخية، ومن الرائع أن تشهد المملكة على المستويين الرسمي والشعبي الكثير من الفعاليات المتنوعة للاحتفال بذكرى هذا اليوم المجيد، سواء كانت فعاليات: فنيًّة، أو ترفيهية، أو إعلامية، أو فعاليات اجتماعية وأمسيات فكرية وثقافية، وفي وجهة نظري فإن هذه الأنشطة والفعاليات مثل: المهرجانات التراثية، والأمسيات الشعرية، والعروض العسكرية، والمسيرات الشعبية – بالغةُ الأهمية؛ ليس فقط لأنها تساهم في إحياء ذكرى هذه المناسبة بالحفاوة المطلوبة، وإنما لأن هذه الفعاليات تعرف الأجيال الجديدة من السعوديين والسعوديات على تراثنا العريق، وترسخ في أعماق وجدانهم الاعتزاز بثقافتنا وهويتنا العربية الإسلامية، وتعرفهم بمكوِّنات هذه الثقافة العريقة، سواء عبر ارتداء الأزياء التقليدية التراثية، أو تقديم الأطباق الشعبية والحرف اليدوية التي تشتهر بها كل منطقة إدارية، مما يعكس التنوع الثقافي لمناطق المملكة العربية السعودية، ويلقي الضوء على جانب من تاريخها المجيد.
وللحق فإن ذكرى يوم التأسيس السعودي تُعد إرثًا ممتدًا وحاضرًا في عقل ووجدان السعوديين جميعًا، فمجتمعنا السعودي ولله الحمد ما يزال متمسكًا بثقافته وعاداته وتقاليده، رغم كل مظاهر التحديث والتطوير الذي تشهده المملكة في جميع المجالات، لكن التطوير والتحديث لا يعني الانقطاع عن الجذور أو الانسلاخ من الهوية، وإن شاء الله تعالى تظل أجيالنا المتعاقبة وفيَّةً لهويتها العربية الإسلامية وجذورها العريقة وقيمها النبيلة السامية، وينبغي هنا أن نؤكد قدرة المملكة على التجدد المستمر والتطور الدائم والتكيف مع المتغيرات، مع الحفاظ على مبادئها وهويتها وخصوصيتها الدينية والثقافية.
وفي الختام أود أن أهمس بلطف في آذان أبنائي وإخواني الشباب قائلًا: إن مملكتنا الحبيبة التي هي أعز علينا من أرواحنا لم تُبنَ بين عشية وضحاها، ولم تؤسس هكذا في يوم وليلة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من العمل الشاق والبذل والتضحيات وجهود دائبة بذلها الأجداد والآباء لتحقيق الطموحات والإنجازات. إن تاريخنا هو مصدر قوتنا وفخرنا وعزتنا، وحين نحتفي بيوم التأسيس وهو جزء من الماضي، إنما نقوم بذلك لاستلهام الدرس والعظة والعبرة من أجل الحاضر والمستقبل، فحافظوا على هذا الإرث العريق، واعملوا بكل جدية وعزيمة وإصرار لمواصلة مسيرة نهضته وازدهاره وتقدمه، من خلال العلم والعمل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال