الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في لحظة تاريخية تُلقي بظلالها على مسيرة ثلاثة عقود من الفوائض، شهدت البنوك التجارية السعودية في 2024 عجزاً في صافي الأصول الأجنبية لأول مرة منذ 1993، معلنة عن تحول مالي مثير وسط ضغوط الإنفاق الضخم على رؤية 2030 ومشاريع كـ “نيوم”. من الضروري ان تتجاوز البنوك هذا التحدي لتحمي الاقتصاد من شبح نقص الأصول الأجنبية، وهذا يتطلب وضع استراتيجيات محلية والاستفادة من دروس عالمية، حيث يصبح الماضي مرآة لرسم خطى المستقبل.
يعكس هذا العجز ارتفاع الطلب على السيولة، مع نسبة قروض إلى ودائع وصلت إلى 106.4% في 2024، مما دفع البنوك إلى الاقتراض الخارجي بإصدارات دين بلغت 8.3 مليار دولار في 2023-2024، بينما تقلصت الإيرادات النفطية مع أسعار دون 80 دولاراً للبرميل لفترات طويلة، لتتحول الفوائض التي اعتادتها البنوك منذ التسعينيات إلى تحدٍ يثير التساؤل:
كيف ستتعامل البنوك مع هذا الواقع الجديد لتجنب أزمة نقص في الأصول الأجنبية تهدد استقرارها؟ بالطبع تكمن الاجابة في استخدام مزيج من الاستراتيجيات المحلية والدروس المستلهمة من تجارب عالمية مرت بمثل هذه العواصف المالية، خاصة ان البنوك السعودية تمتاز بتاريخ عريق.
بدأت أول مؤسسة مالية أجنبية في تقديم خدمات الصرافة في المملكة منذ عام 1926، تحت اسم الشركة التجارية الهولندية، التي أصبحت لاحقًا البنك السعودي الهولندي، ثم البنك الأول. في عام 1953، تأسس أول مصرف تجاري سعودي تحت اسم البنك الأهلي التجاري، الذي يُعد أكبر مؤسسة مالية في السعودية وإحدى القوى المالية الإقليمية. منذ ذلك الحين، شهدت المملكة نموًا كبيرًا في القطاع البنكي، حيث وصل عدد البنوك التجارية السعودية والأجنبية إلى 36 مصرفًا في عام 2022، بما في ذلك 11 بنكًا محليًا، و3 بنوك رقمية محلية، و22 فرعًا لبنك أجنبي.
هذا التطور يعكس قوة واستقرار النظام المالي في المملكة، ويبرز دور البنوك في دعم النمو الاقتصادي وتلبية احتياجات الأفراد والشركات.
يمكن للماضي أن يضيء طريق المستقبل. حيث تتجه البنوك السعودية نحو تنويع مصادر التمويل كخطوة أولى لكبح جماح هذا العجز، حيث بدأت بإصدار صكوك محلية بالريال، كما فعل “البنك الأهلي السعودي” و”بنك الراجحي” بقيمة تجاوزت 5 مليارات ريال في 2024، لتقليل الضغط على الأصول الأجنبية، بينما تسعى لتعزيز الودائع المحلية بعروض فائدة تنافسية لزيادة السيولة الداخلية وتخفيف الاعتماد على الاقتراض الخارجي الذي يتفاقم مع الطلب على القروض بنسبة 10% سنوياً، مستفيدة في ذلك من تجربة البنوك التركية في 2018-2019، حيث نجحت أسماء كـ”غارانتي” في جذب ودائع محلية بفوائد وصلت إلى 25% لتخفيف عجزها بعد انهيار الليرة.
في الوقت نفسه، تعمل البنوك السعودية على إدارة المخاطر الائتمانية بتقليص الإقراض غير الضروري والتركيز على القطاعات ذات العائد السريع كالتجارة والخدمات، على غرار ما فعلته البنوك اليابانية في التسعينيات عندما صفّت أصولها غير المربحة خلال “العقد الضائع” هو مصطلح قانوني يستخدم للإشارة إلى عقود أو اتفاقيات لم تعد موجودة أو غير قابلة للتنفيذ بسبب فقدان الوثيقة أو عدم وجود نسخة منها. يمكن أن يحدث ذلك لعدة أسباب مثل، فقدان الوثيقة الاصلية للعقد دون وجود نسخ احتياطية، وأيضا تعرض الوثيقة للتدمير بسبب حريق او تلف مادي، والسبب الأخير هو عدم وجود نسخ الكترونية تحفظ العقد بشكل أمن.
الا ان الامر في المصارف والبنوك السعودية يختلف لأنها تستند إلى دعم البنك المركزي السعودي “ساما” الذي ضخ 50 مليار ريال في 2024 من احتياطياته البالغة 410 مليارات دولار في 2023، مستلهمةً نهج البنوك المصرية في 2022-2023 التي تعاونت مع مركزيها لتأمين 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لتخفيف عجز بلغ 24.46 مليار دولار.
لكن هذه الخطوات وحدها لا تكفي، فالتجارب العالمية تُظهر أن النجاح يتطلب أكثر من حلول مؤقتة، كما حدث مع البنوك الأرجنتينية في 2001-2002 التي لجأت إلى قيود صارمة كـ”الكوراليتو” للحد من استنزاف الأصول، لكنها دفعت ثمناً باهظاً في ثقة المودعين. لتجنب أزمة نقص الأصول الأجنبية، تحتاج البنوك السعودية إلى متطلبات استراتيجية مستدامة تتجاوز الإجراءات الطارئة، بدءاً بزيادة الإيرادات غير النفطية لتقليل الاعتماد على النفط الذي شكل 70% من الإيرادات في 2023، حيث تحقيق هدف رؤية 2030 بوصولها إلى 1.2 تريليون ريال بحلول 2030 سيوفر تدفقات نقدية تحمي الاحتياطيات، وهو درس يمكن استخلاصه من اليابان التي أعادت هيكلة اقتصادها بعد التسعينيات باستثمارات خارجية في آسيا، بينما يتعين تحسين كفاءة الإنفاق بتوجيه التمويل نحو مشاريع ذات عائد فوري بدلاً من استنزاف السيولة في مشاريع طويلة الأجل، على عكس مصر التي عانت تضخماً بنسبة 38% في 2023 بسبب سوء التخطيط بعد تخفيض عملتها.
تعزيز التكنولوجيا المالية عبر حلول دفع محلية كـ”STC Pay” يمكن أن يقلل الاعتماد على العملات الأجنبية في المعاملات الداخلية، مستفيدة من تجربة تركيا في إعادة هيكلة ديونها مع الدائنين، بينما يتطلب تنويع الاستثمارات الأجنبية في أسواق عالمية ذات عائد مرتفع كالسندات الأوروبية، كما فعلت اليابان بضخ 12 تريليون ين لإعادة رسملة بنوكها، بدلاً من بيع الأصول، مع التنسيق الوثيق مع “ساما” والحكومة لضمان استقرار سعر الصرف عند 3.75 ريال للدولار عبر ضخ السيولة أو إصدار سندات حكومية لتغطية العجز، متجنبة القرارات الجذرية التي ضربت ثقة الأرجنتينيين بعد تخفيض ديونها بنسبة 70% في 2005.
هذا العجز ليس مؤشراً على أزمة فورية بفضل دعم “ساما” والاحتياطيات القوية، لكنه يحمل في طياته دعوة عاجلة لإعادة هيكلة الاستراتيجيات المصرفية بمزيج من الحلول المحلية والدروس العالمية، فتجارب مصر وتركيا والأرجنتين واليابان تُظهر أن الجمع بين السيولة المحلية والإصلاحات طويلة الأمد والدعم المركزي هو مفتاح النجاح، ومع هذا التحدي تبرز فرصة لتحويل الضغط إلى قوة دافعة نحو استقرار مالي أكثر متانة.
ولضمان ذلك، يوصى البنوك السعودية بالإسراع في تطبيق خطط تنويع الإيرادات عبر دعم القطاعات غير النفطية كالسياحة والتكنولوجيا بقروض ميسرة، وتكثيف الاستثمار في التكنولوجيا المالية لتقليل الاعتماد على الدولار في التعاملات اليومية، مع إنشاء صندوق استثماري مشترك مع “ساما” للاستثمار في الأسواق العالمية بعوائد مضمونة، وأخيراً وضع خطة طوارئ لإدارة السيولة تحاكي مرونة اليابان وتحذر من مخاطر القرارات المتسرعة كما في الأرجنتين، لتبقى البنوك درعاً مالياً يحمي طموحات السعودية ويصون استقرارها الاقتصادي في مواجهة التحولات العالمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال