الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذا العصّر الذي نعيشه يُحّكم بالأرقام، نقيس نجاح الوجهات السياحية بعدد الزوار، بمعدلات الإنفاق، بعدد ليالي الإقامة. نحسب كل شيء… إلا ما لا يمكن حسابه.. ولا بأس أن نعجز.
في المقال السابق، تحدثنا عن البيانات الضخمة ودورها في فهم السائح، كيف يتحرك؟ ماذا يفضّل؟ كيف ينفق؟ لكن هل هذا كافٍ؟ هل يمكن للبيانات التي نراها أن تحكي القصة كاملة؟ أم أن هناك طبقة أخرى من الفهم لم نكتشفها بعد؟
كل وجهة سياحية في العالم تستثمر في تحليل ما يريده السائح، لكن القليل من الوجهات تستثمر في اكتشاف ما لا يدرك السائح أنه يريده.
دعونا نتأمل المشهد التالي: سائح يسير في سوق برزان التاريخي في حائل، يمر بجدران تنطق بتاريخ عمره مئات السنين، لكنه يكتفي بالنظر. لماذا؟ لأنه لا يوجد من يروي له القصة. لا يوجد عنصر يثير فضوله، لا يوجد شيء يجذبه إلى التفاعل. إنها لحظة ضائعة، لا تسجلها الإحصاءات، لكنها تسجل في ذاكرته كشيء لم يلمسه. كم عدد اللحظات المشابهة التي تفوتنا؟
يظهر هنا مفهوم التكلفة الضائعة – الفرص التي نخسرها عندما نركّز على الظاهر ونتجاهل الخفي. في المرات القادمة التي نحسب فيها عدد زوار سوق برزان ، لنفكر في التجربة التي لم يختبروها، في اللحظة التي كان يمكن أن تجعلهم يعودون مرة أخرى.. لكن لم تكن هناك.
سنغافورة تحب معرفة أين يذهب السيّاح، لكن قررت في إحدى المرات أن تدرس أين يتوقفون، وكيف يشعرون إذا توقفوّا. هذه الحالة حدثت في حدائق الخليج التجربة السياحية التي قررت أن تبني تجربتها بعقلية البيانات الخفيّة، كيف حدث ذلك؟
عندما يمر الزوار بين الأشجار العملاقة، يشهدون واحدًا من المناظر البديعة، لكن لا أحد منهم يعلم أن هناك 17 جهاز استشعار موزعة بدقّة، تراقب كيف يتحرك الزوار، أين يقفون، وكم من الوقت يقضونه في كل زاوية. حركة ملفتة؟ نعم، لكن لا يكفي أن تقوم بالشيء لأنه ملفت. لدينا لغز الآن، لماذا يتوقف الناس أمام هذه الأشجار العملاقة؟
وصلت النتائج، وقالت التالي: أولًا، توقّف الناس أطول من المعتاد، لا يوجد تفسير منطقي لهذا. ثانيًا، الزوار لم يذكروا حبّهم للأشجار في الاستبيانات، ورغم ذلك يتوقفون عندها! حسنًا، هنا فرصة سياحية ضائعة دون أن يدركها أحد.
وهنا وُلدت فكرة عروض إضاءات وأصوات مصممة خصيصًا لهذه اللحظة الخفية -إذا صحّ التعبير- وظّفوا فيها سلوك لم يكن حتى السيّاح يدركوا وجوده فيهم. أنت تقفّ كل مرة أمام هذه الشجرة، دعنا نضع لك خلفية موسيقية وقليلٌ من الألوان التي ترسم لوحة عقلك للأبد.
والنتيجة؟ تحوّل التوقف الصامت إلى لحظة تتحدث معك، ارتفع متوسط بقاء الزوار بنسبة 30%، تحوّلت الحدائق إلى واحدة من أكثر الوجهات تصويرًا على وسائل التواصل الاجتماعي. ما الذي حدث؟ ألم تكن الأشجار موجودة منذ اليوم الأول؟
هناك نوعان من البيانات، بيانات واضحة يتحدث عنها الناس، وهناك بيانات صامتة تهمس بها سلوكياتهم دون أن يشعروا. ومن هنا وُلد مفهوم التحليل السلوكي – علم يدرس الأفعال غير الواعية ليكشف مالا يُقال، لكنه يحدد القرارات ويوجّهها.
تخيّل أنك تسير في سوق عكاظ، تسمع صدى الخيول، ترى الأعشى يلقي شعره، وتشهد معركة بين فرسان العرب. قد يبدو مشهدًا من رواية تاريخية، صحيح، لكن هذا ليس ما سأشير إليه، إن هذه تجربة حقيقية عاشها زوار سوق عكاظ في موسم الطائف 2019م، حيث تحولت الجادة إلى مسرح حي يضم أكثر من 2000 ممثل.
لنفترض أنك الآن في محافظة عيوان الجواء، حيث صخرة عنترة، تقف شاهدة على قصة عشق صارت أسطورة عربية، هناك، هل سيقف السائح ليتفكر في تركيبة الصخرة الجيولوجية؟ لا، حتمًا سيتساءل: هل كان عنترة يقف هنا حقًا؟ – لن يجيبه أحد، سيبقى بين الشكّ واليقين. لكن ماذا لو ظهر فجأة عنترة، يمسح العرق عن جبينه، وماذا لو خرجت من الخلف عبلة، تريد أن تلقي رسالة وداع أخيرة؟
صحيح أننا مجبرون اليوم على أن نُحب مؤشرات الأداء، لكنها، ويا للمفارقة، لا تبادلنا الحب بنفس المقدار في هذه الزاوية تحديدًا. إذا وقفت أمام صخرة عنترة، ثم فجأة، خرج لك أحدهم يلوّح بدفتره، ويسألك بجديّة مفرطة: على مقياس من 1 إلى 10، ما هو مستوى إلهامك الآن (%)؟ أرجوك أهرب فورًا.
نعم، أعلم أن الفضول يقتلك وتريد معرفة كم دقيقة قضاها السائح أمام الصخرة، أو ربما تريد حتى رسم مخطط بياني يوضّح الفارق بين معدل التأمل بين السياح العرب والأسيويين، لا بأس، أفعل ذلك إن أردت، لكن قبل أن تغرق في الأرقام، أسمح لي أن أطرح عليك هذه الأسئلة:
البيانات الضخمة هي الأداة التي تقدم لنا الحقيقة، واللغة التي تتحدث بها الأسواق، لكن الحقيقة الكبرى تكمن في أن كل رقم يخفي وراءه سردية ربما قيلت أو ربما لم تقال بعد. السياحة اليوم -في ظني- معادلة من المعلومات والفهم والتكيّف الاستراتيجي الذكي، ينجح فيه من يملك المورد الأكبر، ومن يملك القدرة على قراءة الأنماط واكتشاف ما يمكن اكتشافه قبل أن يصبح واضحًا للجميع..
الرسالة هنا: من يقرأ الأرقام يُخطط، ومن يقرأ الصمت يبتكر – ومن يجمع بينهما يصنع رقمًا صعبًا على الخارطة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال