الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
المدينة الفاضلة أو “اليوتوبيا” التي دعا إليها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه جمهورية أفلاطون، والذي تصور أن تتحقق فيها العدالة الأخلاقية من خلال تنظيم المدينة بطريقة تتيح لكل أفرادها العيش بانسجام وسلام وتنظيم بدون مشكلات.
هذه المدينة المثالية، التي أصبح يضرب بها المثل في استحالة تحقق الشيء، لم ولن تصبح حقيقية أبدًا إلا في أذهان الحالمين.
ومثل هذه المدينة التي تخيلها أفلاطون، هناك ذلك الموظف المجتهد الذي يتخيل وجود منظمة فاضلة تتمتع بقدر مثالٍ من الاحترافية والتنظيم والعدالة، ويتوق يوماً أن يحط رحاله فيها بعد أن رأى ما رأى من “جرائم” إدارية اكتوى بنارها وزهد بأحلامه وطموحاته بسببها.
فبعد مشاهدات عديدة على أرض الواقع نرى أن أكثر الجرائم الإدارية -والأكثر تأثيراً على نفسية الموظف ومستقبله – تُرتكب على مستوى التنظيم؛ مما يشير إلى أن مهارات التنظيم الإداري متواضعة أو ضعيفة جدًا لدى أغلب القيادات الإدارية.
فعلى المستوى التنظيمي الأكبر للمنظمة ككل تأخذ الجرائم التنظيمية أشكالًا مبتكرة وإبداعية منها على سبيل المثال عدم وجود تنظيم فعلي مثل الهيكل الإداري إلا على الورق، فمهام قد تسند لوحدات إدارية مختلفة عن الأدوار المسندة إليها رسميًا، وموظفون يعملون على مهام ضمن نطاق عمل وحدات إدارية أخرى، لا توجد أدوار واضحة للوحدات الإدارية، أو هناك ازدواجية في أعمالها، بل أن هناك وحدات إدارية مسند إليها نفس مهام وحدات أخرى.
ومن ناحية القيادات الإدارية، يتفاجأ الموظف المجتهد أنه حتى في أعلى مستويات الإدارة قد لا يكون هناك تنظيم ١٠٠٪ كما يعتقد، فسيكون هناك خروج عن النص وخروج عن الترتيب الهرمي للإدارة، وسيجد أن هناك اتجاه ثالث للاتصالات الإدارية بعد أن كانا اتجاهان رأسي، وأفقي، أصبح هناك اتجاه ثالث: عشوائي!
ثم إذا دنونا من التنظيم الإداري على مستوى الوحدة الإدارية نرى العجب العجاب، حيث يصطدم الموظف بالقيادة الإدارية غير المؤهلة.
المدير لا يستطيع إسناد المهام بشكل واضح إلى موظفيه، ولا يستطيع تحديد المهام الإدارية الموكلة بكل قسم في إدارته، ولا يستطيع فض النزاعات بين موظفيه، ولا يستطيع تحفيز وتشجيع موظفيه، بل لديه مهارة في إشاعة الإحباط والمشاعر السلبية بينهم، لا يعرف ما هو القرار الصحيح، ولا يستطيع اتخاذ قرار، وبعد اتخاذ القرار لا يستطيع تنفيذه.
وقد عزا الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في كتابه “حياة في الإدارة” أسباب هذه الممارسات الإدارية السيئة إلى شخصية المدير؛ حيث قال: “الإداري الغبي لا يستطيع معرفة القرار الصحيح؛ والإداري الجبان لا يستطيع اتخاذ القرار الصحيح؛ والإداري غير الماهر لا يستطيع تنفيذ القرار الصحيح”.
نتيجة لتلك الجرائم التنظيمية يشعر ذاك الموظف المجتهد غالبًا بمشاعر غامرة تخنقه، وتؤثر في أعصابه وتثير توتره وحنقه واستياءه من ممارسات إدارية لا يفهمها ولا يوجد من يشرحها له أو يرشده إلى كيفية التعامل معها.
وهذا الاستياء مفهوم، وله ما يبرره بالطبع لان وظيفة “التنظيم” هي أحد أهم وظائف الإدارة التي من أجلها وجدت وظيفة المدير. وعدم التنظيم يؤدي إلى العشوائية وانخفاض الانتاجية وتشتت المسؤولية والضغط على الموظف نتيجة عدم الوضوح، والأوضاع المتوترة بين زملاء العمل، ثم القلق والإحباط.
هذه المثالية المنطبعة في ذهن الموظف المجتهد مستحيلة لأن المنظمة تدار من بشر، والبشر – حسناً، كما نعرف جميعاً- غير مثاليين، خصوصًا في بيئة لا تهتم بالكفاءة الإدارية.
ليست هذه دعوة للتقبل السلبي، أو التعايش القلق في ظل وضع غير صحي، أو يُفهم أنه لا وجود لمنظمات على قدرٍ عالٍ من التنظيم، وقادة على قدر كبير من التأهيل والوعي والقيادة الرشيدة.
ولكن بعد أن يمضي الإنسان أكثر من عقد ونيف، ومما شاهدته ورأفة بحال بعض الموظفين خصوصاً من المنظمين حديثاً إلى سوق العمل، هناك واجب يقع على عاتق الموظف يجب أن يفعله بحق نفسه.
هذه دعوة للموظف لتطوير مهارات مهمة في عصر التغير السريع والتحولات الكبرى، هذه المهارات التي لم يسلط الضوء عليها بشكل كافٍ، ولا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام الذي تستحقه.
إنها مهارات التكيف والمرونة، وعدم الاستسلام والإحباط السريع، والقدرة على التعامل مع المشاعر الصعبة بطريقة صحية وسليمة تضمن سلامة الموظف النفسية وتحافظ عليها، والقدرة على بناء شبكة متينة من العلاقات الداعمة التي توفر له الدعم العاطفي والنفسي والإرشاد والتوجيه في الأوقات الصعبة.
لا يمكن لموظف تنفيذي ليس له صلاحيات إدارية أن يغير من طريقة عمل المنظمة، ولكن يمكنه أن يغير من نفسه ومن طريقة استجابته للأحداث من حوله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال