الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أولاً: الحاجة إلى العدالة التحكيمية الاستثنائية
إذا بَلَغَت سُبُلُ الصلح طَرِيقَاً مَسدُودَاً، وأصبَحَ من المستحيل الاستمرار بالتعامل أو حتى الوصول إلى تسويةٍ وديةٍ؛ فإنَّ ما يَجِبُ أن يتَّفق عليه أطراف المُنَازَعَة هو منطقُ تفكيرٍ مُشتَرَكٍ على أسلوب فضِّ تلك المنازعة.
يَتَمَثَّلُ هذا المنطق بأرضيةٍ مصلحيةٍ مُشتَرَكَةٍ بين الأطراف الذين تَتَنَازَعُهُم المصالح، ويُمَزِّقُ ذاتَ بينِهِم اختلاف وجهات النظر، وقد يَرَى البعضُ منهم وجودَ سوء نيةٍ لدى الطرف الآخر؛ وهكذا فقد تَنعَدِمُ الثقة فيما بين هؤلاء الأطراف، ويُصبِحُ من الضروري إيجادَ طرفٍ ثالثٍ حتى يَحكُمُ في المنازعة التي نشأت وتطوَّرت وأصبحت تُهَدِّدُ استثمارات دوليةٍ برؤوس أموالٍ هائلةٍ.
وعلى صعيد القضاء؛ فعلى الصعيد المالي والتجاري، يَجِبُ حَسْمُ منازعات الأعمال بِأقصَى سرعةٍ وأعدَلِ صيغةٍ بآنٍ معاً، فهي منازعاتٌ قد تَختَلِفُ قِيَمُهَا المُتَنَازَعِ عليها بين ساعةٍ وأخرى، فلا بُدَّ من تحقيق العدالة الناجزة.
أمَّا على الصعيد الدولي؛ فالإشكالية هي أنَّ الأطراف المُتَنَازِعَة ذات الهويات الوطنية المُختَلِفَة قد تَجِدُ صعوبةً في إيجاد أرضيةٍ مُشتَرَكَةٍ للاختصاص القضائي بالحكم في موضوع المنازعة الاستثمارية.
وهكذا، نَجِدُ أنَّ الأطراف الدولية قد تَختَلِفُ قبل أن تبدأ في حلِّ المنازعة، ويكون سبب هذا الخلاف هو هوية السلطة القضائية المُختَصَّة بالنظر في المنازعة؛ حيث إنَّ لكل من تلك الأطراف سيادةً مستقلةً أو أنها تَتْبَعُ لولاياتٍ قضائيةٍ مُختَلِفَةٍ.
وهكذا، نَجِدُ أنَّ المنازعات الدولية هي من النوع الحسَّاس بشكلٍ مزدوجٍ؛ وذلك على صعيد السلطة القضائية المختصَّة بالنظر في النزاع، والتي يَقبل أطراف النزاع اختصاصها هذا من جهةٍ أخرى.
كلُّ هذه المعطيات قد شكَّلت أرضيةَ الحاجة إلى جهةٍ تحكم بقوة القانون وسلطة القضاء، لكن بهويةٍ مُتَعَدِّدةِ الجنسيات؛ كلُّ ذلك بِمَنطِقِ الحاجة إلى جهةٍ استثنائيةٍ لفضِّ المنازعات.
ثانياً: أسلوب فضِّ المنازعات..
منهجٌ استثنائيٌّ، ومحكمةٌ اتفاقيةٌ
لقد وَصَلنَا إلى قناعةٍ مَفَادُهَا أنَّ التحكيم هو الحل الأمثل لفض المنازعات الاستثمارية الدولية وفي هذه الحالة، سَتَظهَرُ إشكالية تحديد هوية الجهة التي سَتَفُضُّ المنازعة، والأرضية القانونية التي ستنشأ على أساسها هذه الجهة، ثم القانون الذي سَتَحكُمُ بِمُوجِبِهِ، وأخيراً كيفية تنفيذ هذا الحكم بعد أن يَكتَسِبَ قوة الأمر المَقضِي.
وعليه، فقد ظَهَرَت “مراكز التحكيم الدولية” من باب كَونِهَا حلاًّ مؤسَّساتياً لِفَضِّ المنازعات الدولية الخاصَّة؛ هذا المركز الذي يُمثِّلُ منهج التحكيم الاستثنائي، لكن ذلك المنهج الذي يَستَنِدُ على أساسٍ اتفاقيٍّ.
فالتحكيم عبر مراكز التحكيم الدولية لا يَأتِي من باب فَرضِ سلطة القانون أو انقطاعِ الخيارِ الودِّي بين أطراف المنازعة؛ بل إنَّ التحكيم ينشأ بالأساس من أرضيةٍ اتفاقيةٍ دوليةٍ.
ففي البداية، عندما تَحدَّثنَا عن فكر التحكيم، قلنا بأنَّه عبارةٌ عن إيجاد أرضيةٍ منطقيةٍ-مصلحيةٍ أساسيةٍ للتفكير بين الأطراف المُتَنَازِعَة، ليس لإيجاد حلِّ لموضوع المُنَازَعَة، بل لإيجاد مَنطِقٍ للتعامل مع الأزمة التي تَشَكَّلَت بسبب تَعَارُض مصالح الأطراف، ذلك المَنطِقِ الذي يقول بضرورة إيجاد طرفٍ ثالثٍ قادرٍ على إيجاد صيغةِ العدالة المَفقُودَة بأسرعِ وقتٍ وبأقلِّ تكلفةٍ على الأطراف المُتَنَازِعَة.
ونحن هنا لا نتحدَّث عن مُنَازَعَةٍ بسيطةٍ أو ذات قِيَمٍ مُتَوَسِّطَةٍ، بل نتحدَّث عن أطرافِ منازعةٍ استثماريةٍ دوليةٍ قد تَبلُغُ قيمتها ملايين أو حتى مليارات الدولارات؛ لذا فإنَّ إيجاد أرضيةٍ منطقيةٍ لفضِّ المنازعة يَعنِي البدءَ بإيجادِ حلٍّ يُقدِّمُ التسوية الأقلَّ تكلفةٍ للخروج من الأزمة بالنسبة لجميع أطرافِهَا، سواءً على من سَيكَسَبُ الدعوى التحكيمية أم مَن سَيَخسَرُهَا بأقلِّ التكاليف المُمكِنَة.
ثالثاً: أهمُّ محاكم التحكيم الدولية في المجال الاستثماري الدولي
من أهمِّ هذه المحاكم:
حيث نشأ هذا المركز بمُقتَضَى معاهدة واشنطن لعام 1965،International Center for Settlement of Investment- Disputes.
وذلك تحت رعاية البنك الدولي، باعتبار مَكَانَتِهِ الخاصَّة النابِعَة من دَورِهِ في تمويل المشروعات الإنمائية لدى الدول الأعضاء.
رابعاً: الولاية الاتفاقية المبدئية لمحاكم التحكيم.. في مقابل الولاية الإلزامية الواقعية
رغم أنَّ المَنطِقَ الأساسيَّ الذي نشأ التحكيم على أسَاسِه هو: “العدالة الاتفاقية”؛ أي مفهوم اختيار جهة فضِّ المنازعة بشكلٍ اتفاقيٍّ، ثم فرض العدالة الاتفاقية بشكلٍ إلزاميٍّ.
رغم ذلك، فإنَّ معطيات الواقع كثيراً ما تكون أقوى من إرادة بعض الأطراف؛ الأمر الذي قد يَجعَلُ من حرية الإرادة التحكيمية –إن صَحَّ التعبير- مَحَلَّ شَكٍّ.
ففي الكثير من الحالات قد يَضَطَرُّ بعض الأفراد على القبول ببعض البنود على مَضَضٍ، ليس لِرِضَاهُم عنها فعلاً، بل لأنَّهم لا يجدون بديلاً فعلياً آخر حتى يُقَدِّمَ لهم السلعة أو الخدمة؛ وهو ما يُسَمَّى بـ: “عقد الإذعان”.
ففي حال قام أحد أطراف العقد بِفَرضِ بنودٍ على الطرف الآخر؛ بحيث تكون تلك البنود غيرَ قابلةٍ للتفاوض، فإمَّا أنْ يَأخُذُ بها الطرف الضعيف أو يَرفُضَ العقد بِرُمَّتِهِ؛ عندها يكون العقد عقد إذعانٍ بالنسبة للطرف الضعيف المُذعِن.
وهنا قد يكون بند التحكيم في أيِّ عقدٍ هو البند المَفرُوضِ على الطريف الضعيف اقتصادياً؛ فقد تَشتَرِطُ بعض الشركات أو الوكلاء التجاريِّين لشركاتٍ عالميةٍ أو شركات الخدمات الأساسية، على عُمَلَائِهَا أن يتمَّ فضُّ أية منازعةٍ مستقبليةٍ عَبرَ مركز تحكيمٍ مُحدَّدٍ في العقد؛ فَيَجِدُ الطرف الضعيف نفسه مُضطَرَّاً لقبول هذا الشرط الذي يُلغِي الولاية القضائية الاتفاقية النظرية للتحكيم؛ فالتحكيم يُصبِحُ إلزامياً بِفِعلِ القوة التفاوضية لأحد طَرَفَيْ العقد على الآخر.
أمَّا الإلغاء الصريح والمباشر للطبيعة الاتفاقية الخاصة بالتحكيم، فيكون عبر القوانين التي تَفرِضُ التحكيم بَدَلَ القضاء في بعض الأوساط الاستثمارية، مثل منازعات عمليات التداول التي تنشأ في أسواق المال (البورصات)؛ حيث تنصُّ بعض القوانين أو أنظمة البورصة على التحكيم لدى مَرَاكِزِهَا الخاصة كطريقٍ وحيدٍ لفَضِّ المنازعات تَوَخِّيَاً للسرعة والتخصُّص في حسم المنازعة.
لكن في جميع الحالات، لا يمكن القبول بطريق التحكيم الإلزامي الواقعي أو الصريح؛ فالتحكيم يَبقَى طَرِيقَاً اختِيَارِياً ينشأ بموجب بندٍ اتفاقيٍّ ويَستَنِدُ على رضا الأطراف.
وبالنتيجة، فإنَّ التحكيم الدولي في القضايا الاستثمارية يَنطَلِقُ من مَنطِقِ الحاجة، ويَستَنِدُ على أساسٍ اتفاقيٍّ نظريٍّ؛ لكن نجاح هذا التحكيم في الوصول إلى العدالة الاتفاقية هو بالأساس رهنٌ بالرضا الفعلي عن فكرة اللجوء لأسلوب التحكيم أولاً، ثم الرضا عن مركز التحكيم الدولي الذي سَيَحسُمُ المنازعة.
مثل هذه الأمور يجب أن تَنظُرَ فيها محاكم التحكيم قبل حتى النظر بموضوع النزاع؛ لأنها من الإشكاليات التي تمسُّ وِلَايَتِهَا على موضوع النزاع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال