الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نؤمن جميعًا أن الأرزاق بيد الله عزوجل يوزعها بحكمة وعدل. لكن حين نتأمل في مفهوم “الحظ”، نجد أنه مثير للجدل. هل هو مجرد صدفة عشوائية، أم سحرًا غامضًا أم ورقة يانصيب تبتسم لصاحبها، أم أنه أشبه ببذرة تزرعها وتسقيها لتثمر يومًا ما؟.
حين نتأمل في قصص الناجحين، نجد أن كثيرًا من الناس ينسبون نجاحاتهم إلى الحظ، تمامًا كما رأى قوم قارون في ثروته برهانًا على حظه العظيم، فقالوا ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ لكن، ما لم يدركوه هو أن هذا “الحظ العظيم” لم يكن سوى اختبار، انتهى بالخسف به وبداره.
على النقيض، يصف الله عزوجل الحظ الحقيقي في موضع آخر، حين قال تعالى ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الذين صَبَرُوا۟ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ حيث يفسر العلماء أن الحظ هنا ليس مالًا أو جاهًا، بل هو قدرة الإنسان على التحلي بالصبر وكبح الغضب، والرد على الإساءة بالإحسان، بل ذهبوا إلى أنها من أشرف الصفات التي لا يُوفق إليها إلا من أكرمه الله عزوجل.
لعلّ هذا يجرّنا إلى تساؤل أعمق: هل الحظ يولد مع الإنسان، أم أنه يُصنع؟ الفيلسوف سينيكا قدّم تعريفا بسيطًا ولكنه عميق حين قال: “الحظ هو ما يحدث عندما يلتقي الاستعداد بالفرصة.” بمعنى آخر، الحظ ليس صدفة عشوائية، بل نتيجة طبيعية للتحضير المستمر حين تتقاطع مع الفرصة المناسبة.
هذه الفكرة ليست فلسفية فقط، بل مدعومة بالعلم، حيث قضى د. ريتشارد وايزمان، عالم النفس البريطاني الشهير، قضى أكثر من 10 سنوات في دراسة لماذا بعض الأشخاص أكثر حظًا من غيرهم، ونشر نتائج أبحاثه في كتابه “عامل الحظ” (The Luck Factor) عام 2003. وخلص إلى أن الحظ ليس مجرد صدفة، بل هو مهارة يمكن تطويرها.
بعد دراسة مئات الأشخاص ، اكتشف وايزمان أن المحظوظين لا ينتظرون الفرص، بل يخلقونها من خلال اتباع أربع استراتيجيات أساسية تميزهم عن غيرهم:
1-خلق الفرص من خلال الانفتاح الاجتماعي: الأشخاص المحظوظون يبنون شبكات علاقات قوية، ويتواصلون مع مختلف الأشخاص، مما يزيد من احتمالية تعرضهم لفرص جديدة وغير متوقعة.
2-الاستماع إلى الحدس واتخاذ قرارات ذكية: نتيجة خبراتهم وتنوع تجاربهم، يثقون بحدسهم عند اتخاذ القرارات، مما يتيح لهم التصرف بسرعة وبصيرة.
3-التفاؤل وتوقع النجاح: يميلون إلى التفكير الإيجابي، مما يجعلهم أكثر استعدادًا لرؤية الفرص، وأقل خوفًا من الفشل.
4-تحويل سوء الحظ إلى فرص: لا يستسلمون عند مواجهة الأزمات، بل يبحثون عن الجانب الإيجابي فيها ويعيدون توجيهها لصالحهم. مثال ذلك توماس إديسون، الذي عندما احترق مصنعه، قال ببساطة: “لقد دُمّر المصنع، ولكن الآن يمكننا البدء من جديد”.
وهناك من يولدون في ظروف أفضل، بفرص أكثر، أليس هذا حظًا؟ صحيح، قد يبدأ البعض السباق من نقطة أقرب للهدف. لكن ليست سبب لعدم صناعة الحظ. لذلك، إذا كان الحظ هو تقاطع الفرصة بالاستعداد، فإن الانتظار السلبي لن يجلب شيئًا سوى إضاعة الوقت.
و لهذا جاء التوجيه الإلهي واضحًا ﴿وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ﴾. أي أن العمل هو السبيل لرؤية النتائج، وليس مجرد انتظار المصادفات. ومع العمل يأتي بناء الخبرات والعلاقات والتسويق لعملك.
ولعل أقوى أداة لصناعة الحظ ليست المال أو العلاقات، بل المعرفة. فالعلم يفتح الأبواب، ويخلق لك فرصًا لم تكن تراها. لم يكن من الغريب إذن أن تأتي دعوة إبراهيم عليه السلام كما في الآية الكريمة ﴿وقل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ لأن العلم ليس مجرد حشوٍ للعقل، بل هو النور الذي يضيء طريق النجاح.
في بيئة العمل، لا يُولد الحظ مع أحد، بل يُصنع. ليس الحظ أن تستيقظ ذات يوم لتجد وظيفة الأحلام، بل أن تستعد لها قبل أن تأتي. أن تطور مهاراتك، أن تبني شبكة علاقات، أن تتوسع مداركك المعرفية، تحصل على دورات، تواصل الدراسة، بناء الخبرات التراكمية، العمل والتعلم، لكي تكون مستعدًا لالتقاط الفرصة عندما تطرق بابك. الناجحون لا يجلسون بانتظار الفرص، بل يطاردونها، وإن لم يجدوها، صنعوها بأنفسهم.
الحظ ليس بابًا يُفتح عشوائيًا، بل هو باب تطرقه أنت بعملك واجتهادك. قد تكون الفرصة أمامك اليوم، لكن إن لم تكن مستعدًا لها، فستمر من أمامك دون أن تدركها. لهذا، لا تجعل الحظ مجرد أمنية، بل اجعله نتيجةً لجهدك وسعيك. وليكن هدفك دائمًا التقرب إلى الله عبر تقديم الخدمة والمعرفة، والسعي للمصلحة العامة قبل الخاصة، فهناك يكمن الحظ الحقيقي، الذي لا يُخسف بأصحابه، بل يرتقي بهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال