الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يدور حديث هذه الأيام في مجالس تجار الذهب ورجال الأعمال وأصحاب الشأن حول فكرة إنشاء بنك للذهب، فهل هذا الاقتراح أو التوجه سيدعم الاقتصاد السعودي ورؤية 2030؟ في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية والتضخم المستمر، يبرز الذهب كأصل استراتيجي يجمع بين الأمان والقيمة الدائمة، مما دفع بعض الدول إلى إنشاء بنوك متخصصة في إدارة وتداول هذا المعدن الثمين، وهي مؤسسات مالية تهدف إلى دمج الذهب في النظام الاقتصادي عبر التخزين والتداول وتقديم خدمات استثمارية. مع ارتفاع أسعار الذهب إلى أكثر من 3000 دولار للأونصة في 2025، وتزايد الطلب المحلي في السعودية إلى 15.4 طن من السبائك والعملات الذهبية في 2024، تبرز الحاجة إلى استكشاف هذا النموذج في المملكة، ليس فقط لتلبية الطلب الداخلي، بل لتعزيز مكانتها كمركز اقتصادي عالمي ودعم رؤيتها الطموحة للتنويع الاقتصادي.
تتنوع تجارب الدول في التعامل مع الذهب بين مؤسسات مستقلة وخدمات مدمجة ضمن البنوك التقليدية، ففي إندونيسيا افتُتح أول بنك ذهب مملوك للدولة في فبراير 2025 بالتعاون بين بنك “بي تي سياريا” وشركة “بي تي باجادايان”، بهدف دمج احتياطيات الذهب الخاصة في النظام المالي، مستفيدة من موقعها كسادس أكبر احتياطي عالمي، لتقليل التداول غير الرسمي وتشجيع الادخار بكميات صغيرة، مما عزز الشمول المالي في أكبر اقتصادات جنوب شرق آسيا، بينما تعتمد سويسرا، مركز تجارة الذهب العالمي، على مؤسسات مثل “Metalor” و”BullionVault” لتقديم خدمات تخزين وتداول متقدمة بالتعاون مع بنوك كبرى مثل “UBS”، حيث تُنقى وتُصدر حوالي 70% من الذهب العالمي عبر بنية تحتية متطورة وأمن عالٍ، وفي تركيا طورت نظامًا مصرفيًا يدمج الذهب ضمن بنوك مثل “Ziraat Bank”، حيث أُطلقت مبادرة في 2021 لتحويل الذهب المنزلي إلى أصول مصرفية دعمًا لليرة التركية مع تقديم حسابات ذهبية مرنة، أما الهند فأطلقت برنامج “Gold Monetization Scheme” عام 2015 بالتعاون مع بنوك مثل “State Bank of India” لتشجيع إيداع الذهب مقابل فوائد لكن الشروط الصارمة حدت من نجاحه، وفي الإمارات يبرز مركز دبي للسلع المتعددة (DMCC) كمنصة تداول متطورة مدعومة بخدمات بنوك مثل “Emirates NBD”، مما يعزز مكانة دبي كمركز إقليمي.
تُظهر هذه التجارب أن بنوك الذهب تحقق مكاسب اقتصادية كبيرة، مثل تعزيز السيولة عبر تحويل الذهب الراكد إلى أصول منتجة وتقليل الاعتماد على الواردات وزيادة الصادرات، لكنها تواجه مخاطر مثل تقلبات الأسعار والتكاليف التشغيلية المرتفعة والتجارة غير الرسمية، مما يستدعي تصميمًا دقيقًا لضمان النجاح، وهنا تبرز الفرصة أمام السعودية لتقديم نموذج مبتكر مستفيد من تجربتها الاقتصادية وقوتها في سوق الذهب.
تمتلك السعودية احتياطي ذهب يبلغ 323.07 طن في 2024، مما يجعلها الأولى عربيًا والـ18 عالميًا، بقيمة معادن إجمالية تُقدر بـ2.5 تريليون دولار، وتخطط شركة “معادن”، أكبر منتج محلي، لاستثمار 8.5 مليار ريال في 2025 لدعم الذهب والفوسفات، بينما أصدرت وزارة الصناعة 477 ترخيصًا للتنقيب منذ 2019، وسجلت مشتريات السبائك والعملات الذهبية 15.4 طن في 2024، أعلى مستوى منذ 2014، مما يعكس طلبًا محليًا قويًا، لكن النظام المصرفي الحالي يقتصر على حسابات ذهبية فرعية تتطلب حدًا أدنى 10 جرامات وتقيد الشراء من البنك دون قبول إعادة البيع، مما يحد من المرونة ويعزز التداول غير الرسمي، وهذا الواقع يدعو إلى نموذج جديد يحقق مكاسب استراتيجية تعزز مكانة المملكة اقتصاديًا.
يمكن للسعودية الاستفادة من رؤية 2030 لإنشاء أول بنك ذهب مستقل مملوك للدولة بالشراكة بين “معادن” والبنك المركزي السعودي (ساما)، يتميز بهيكلية مرنة تسمح بإيداع كميات صغيرة من 1 جرام لتشجيع الشمول المالي وتقدم خدمات إعادة الشراء بأسعار تنافسية مرتبطة بسوق لندن وتُصدر حسابات ذهبية رقمية مدعومة بتقنية البلوك تشين لضمان الشفافية والأمان مع تمويل مشاريع “معادن” لزيادة الإنتاج وإنشاء مصافٍ جديدة لتقليل الاعتماد على الواردات التي بلغت 7.24 مليار دولار في 2023 وزيادة الصادرات التي سجلت 1.4 مليار دولار في العام نفسه، إلى جانب تخصيص نسبة من الأرباح لتطوير البنية التحتية في مناطق التعدين وتقديم قروض بضمان الذهب لدعم المشاريع الصغيرة بفوائد منافسة وإطلاق صناديق استثمارية ذهبية متداولة في “تداول” لجذب المستثمرين المحليين والأجانب مع إنشاء خزائن عالية الأمان في مدن رئيسية مثل الرياض وجدة ووضع إطار تنظيمي صارم تحت إشراف “ساما”، مما يحقق مكاسب اقتصادية كبيرة تتجاوز النماذج التقليدية.
يعزز هذا النموذج السيولة الاقتصادية عبر دمج الذهب الراكد في النظام المالي، حيث يمكن أن يحول الطلب المحلي القوي إلى أصول منتجة تدعم الاستثمارات والمشاريع التنموية، ويقلل الاعتماد على الواردات مما يحسن ميزان المدفوعات ويحافظ على استقرار الريال، ويرفع الصادرات ليجعل المملكة مركزًا إقليميًا لتجارة الذهب منافسًا لدبي وسويسرا، مستفيدًا من موقعها الاستراتيجي.
كما يوفر خيارًا آمنًا للاستثمار في ظل ارتفاع أسعار الذهب ويشجع الادخار بكميات صغيرة مع دعم المشاريع الصغيرة عبر قروض بضمان الذهب، ويدعم قطاع التعدين المحلي عبر تمويل “معادن” وزيادة الإنتاج مما يتماشى مع استغلال الثروات المعدنية في تحقيق الرؤية، ويخلق وظائف في التعدين والتنقية والتداول مع زيادة الإيرادات الضريبية من تراخيص التعدين وضرائب الصادرات وحقوق الملكية لإعادة استثمارها في الخدمات العامة والبنية التحتية، إلى جانب تقليل التجارة غير الرسمية عبر سياسات مرنة تضمن الشفافية وتعزز الاستقرار المالي كملاذ آمن في الأزمات، ويرسخ مكانة المملكة عالميًا كلاعب رئيسي في سوق الذهب، لكن تحقيق هذه المكاسب يتطلب مواجهة تحديات مثل تقلبات الأسعار عبر استراتيجيات التحوط والتكاليف العالية التي تُعوض بإيرادات الضرائب والصادرات وكسب ثقة الأفراد بحملات توعية تبرز مرونة النظام وأمانه.
تُظهر التجارب العالمية أن بنوك الذهب يمكن أن تكون رافعة اقتصادية إذا أُحسن تصميمها، وبالاستفادة من احتياطيها وقوتها الاقتصادية، تستطيع السعودية تقديم نموذج جديد يجمع بين المرونة والابتكار، ليس فقط لتلبية الطلب المحلي، بل لترسيخ مكانتها كلاعب عالمي في سوق الذهب، خطوة عملية نحو اقتصاد مستدام ومتنوع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال