الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالمٍ تتسابق فيه الأمم نحو أفق المعرفة، يتربص الفاقد التعليمي كشبحٍ خفي، يُطفئ جذوة الأمل في عيون الأجيال ويُعيق خطواتها نحو المستقبل. ليس مجرد عثرة في طريق التعلم، بل جرحٌ عميق ينزف فرصًا ضائعة، وخطرٌ يهدد بإغراق سفينة التقدم في مستنقع الجهل. تخيّل طفلًا يحدق في صفحة بيضاء، يحلم أن يصبح مهندسًا يشيد الأبراج، لكن أبجديته تائهة بين أصابعه، وحلمه يذبل قبل أن يزهر. هذا ليس خيالًا، بل واقعٌ أكدته اليونسكو في 2023، حين أعلنت أن 617 مليون طفل ومراهق حول العالم يعانون من عجزٍ في مهارات القراءة والحساب، رغم جلوسهم على مقاعد الدراسة. وفي خضم هذا التحدي العالمي، برزت تجارب دولٍ كالمملكة العربية السعودية، التي واجهت الفاقد بجرأة وابتكار، لتُثبت أن الإرادة يمكنها أن تحول الخسارة إلى انتصار. فما هي قصة هذا الفاقد؟ وكيف يمكن لتجارب الدول، بما فيها المملكة، أن تُضيء درب الحلول؟
الفاقد التعليمي هو تلك الهاوية التي تفصل بين ما يُفترض أن يُتقنه الطالب وما يملكه فعلاً، ليس مجرد نقص عابر، بل خسارة تتراكم كالغيوم السوداء التي تُظلم سماء المستقبل. تخيّل طالبًا في الصف الخامس يواجه مسألة “5×3” كأنها لغزٌ من كوكبٍ آخر، أو مراهقًا يصل الثانوية وقلمه يرتجف أمام كتابة جملةٍ متماسكة. هذا ليس تخمينًا، بل حقيقة أظهرها البنك الدولي في 2022، حين كشف أن 53% من أطفال البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل يعانون من “فقر تعليمي”، عاجزين عن فهم نصٍ بسيط بحلول سن العاشرة. لكن الأزمة لم تقتصر على الدول النامية، فقد ضربت الجائحة العالم كالصاعقة، مُغلقة المدارس أمام 1.6 مليار طالب في 2020، وفق الأمم المتحدة، تاركةً وراءها فجواتٍ تعليمية هائلة. وسط هذا المد العاتي، قاومت دولٌ مثل المملكة العربية السعودية بكل قوة، لتُظهر كيف يمكن للتحدي أن يصبح منصةً للإبداع.
في المملكة، لم تكن الجائحة مجرد عاصفة عابرة، بل اختبارًا كشف الحاجة إلى مواجهة الفاقد التعليمي بعزيمةٍ وخطة. بعد إغلاق المدارس، أطلقت وزارة التعليم في 2020 منصة “مدرستي” الرقمية، التي خدمت أكثر من 6 ملايين طالب، وفق إحصائيات رسمية. لم تكتفِ ببث الدروس، بل رصدت الفاقد بدقة. في 2021، أُجري تقييم تشخيصي شمل 6 ملايين طالب، كشف أن 40% من طلاب المرحلة الابتدائية يعانون من نقص في مهارات القراءة، و35% في الرياضيات. لم يكن ذلك ليُثني المملكة، بل أشعل شرارة العمل. صيغت خطط علاجية شملت دروسًا تعويضية عبر المنصة، وتدريب 500 ألف معلم على استراتيجيات استعادة الفاقد، مما أدى إلى تحسن الأداء بنسبة 15% في عام واحد فقط، حسب تقارير الوزارة لعام 2022. هذه ليست مجرد أرقام، بل أنفاسٌ أعيدت إلى أحلامٍ كادت تختنق.
لكن تجربة المملكة لم تقتصر على الجائحة. ضمن رؤية 2030، تبنت المملكة نهجًا طموحًا لسد الفجوات التعليمية عبر تطوير المناهج وتعزيز المهارات الحياتية. أُدخلت برامج مثل “المسارات الثانوية” في 2022، التي تتيح للطلاب اختيار تخصصات تتماشى مع سوق العمل، مما قلّص الفاقد الناتج عن مناهج تقليدية لا تلبي احتياجات العصر. كما ركزت على تدريب المعلمين، حيث دُرب 120 ألف معلم بحلول 2023 على أساليب تدريس حديثة، وفق هيئة تقويم التعليم. هذه الجهود جعلت الفاقد ليس مجرد مشكلة تُعالج، بل فرصة لإعادة صياغة التعليم بقالبٍ ينبض بالحياة.
ومن المملكة إلى كوريا الجنوبية، التي حوّلت الفاقد إلى قصة نجاح مبهرة. خلال الجائحة، اعتمدت على منصة “EBS”، التي وصلت إلى 95% من الطلاب، وحافظت على استمرارية التعليم. عندما أظهرت الاختبارات أن 30% من الطلاب يعانون من فاقد في الرياضيات، أُطلقت دروس تعويضية مكثفة قلّصته إلى 12% في عام واحد، حسب وزارة التعليم الكورية. هنا نرى كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون سيفًا يقطع حبال الخسارة إذا أُحسن استخدامها.
ثم هناك فنلندا، التي تُعد نموذجًا يُحتذى. لم تُغلق مدارسها طويلاً، بل فتحتها بسرعة مع تركيزٍ على التعليم الفردي. عندما تبين أن 15% من طلاب الابتدائية يعانون من فاقد في القراءة، دُرب 10 آلاف معلم على استراتيجيات علاجية، فانخفضت النسبة إلى 4% بحلول 2022، وفق الـ OECD. فنلندا تُعلمنا أن المعلم هو القلب النابض لأي إصلاح، وأن الإنسانية في التعليم تُذيب الفاقد كالشمس تذيب الجليد.
وفي قلب إفريقيا، رواندا تُقدم درسًا في الإبداع رغم الفقر. بعد الجائحة، واجهت تحديًا: 70% من طلابها الريفيين بلا إنترنت. فاعتمدت على الراديو والدروس المطبوعة، ووزعت 500 ألف جهاز راديو، ودرّبت 30 ألف متطوع. بحلول 2023، انخفض الفاقد من 35% إلى 22%، وفق وزارة التعليم الرواندية. هذه صرخةٌ تُعلن: لا عذر للضعف أمام العزيمة.
أما البرازيل، فقد جعلت المجتمع شريكًا في المعركة. مع ارتفاع التسرب بنسبة 30% خلال الجائحة، أطلقت “Escola em Casa”، ودرّبت 2 مليون والد، ووزعت حزمًا تعليمية لـ 8 ملايين أسرة. عاد 60% من المتسربين بحلول 2023، وتحسنت القراءة بنسبة 18%، حسب جامعة ساو باولو. هنا نرى أن الأسرة درعٌ لا يُقهَر إذا أُشعلت جذوتها.
وسنغافورة، عملاق التعليم، استخدمت الذكاء الاصطناعي في “Student Learning Space” لتتبع الفاقد. عندما تبين أن 25% من الطلاب يعانون في العلوم، صيغت دروس مخصصة، وارتفع الأداء بنسبة 22% في ستة أشهر، وفق “PISA” 2022. هذا دليلٌ على أن التكنولوجيا عقلٌ يُفكر معنا إذا أُحسن توجيهه.
لكن ليست كل التجارب نجاحًا. في الهند، أظهرت دراسة “أزيم بريمجي” 2021 أن 92% من الطلاب الريفيين فقدوا مهارة أساسية بسبب غياب التكنولوجيا، والحلول بقيت حبرًا على ورق. هذا تحذيرٌ: بدون عدالة، تظل الجهود كالريح تهب في الصحراء.
فما الحل؟ القياس أولاً، كما فعلت المملكة بتقييماتها الشاملة. ثم التكنولوجيا الموجّهة، كما في كوريا وسنغافورة. والمعلم المؤهل، كما في فنلندا وأستراليا، التي درّبت 50 ألف معلم ليرفعوا الأداء 18%. والمجتمع المتكاتف، كما في البرازيل ورواندا. الفاقد ليس لعنة، بل دعوة للنهوض. المملكة أثبتت أن التحدي يُولد الإبداع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال