الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يكن تزاحم الناس والانتظار لساعات طويلة لشراء (الكوب الوردي) من أحد المقاهي في المملكة في شهر أكتوبر من العام الماضي أمراً يمكن تفسيره ضمن نطاق (الإنسان الاقتصادي العقلاني)، إذ يبدو التأثير العاطفي والتسويق النفسي عبر منصات التواصل الاجتماعي جلياً، والذي جاء تحت عبارة: (متاح لفترة محدودة)؛ مما حفز على اتخاذ القرار السريع بالاقتناء، وعدم تفويت الفرصة.
كما لا تخضع إستراتيجية التسعير التي تستخدمها شركة (أبل) للافتراضات التقليدية في النماذج الاقتصادية، حيث تحدد الشركة أسعاراً مرتفعة نسبياً لمنتجاتها مقارنة بالمنافسين دون الخوف من تقييم الناس الذي قد يكون مختلفا للمنتج، أو تردد المستهلكين في قرار الشراء بهذا السعر المرتفع. فعلى الرغم من الأسعار الباهظة لمنتجات الشركة مقارنة بمنتجات الشركات الأخرى، إلا أن الناس يشترونها على أي حال.
وكيف نفسر وفقا للمنطق الاقتصادي العقلاني قيام متجر (Hermès) برد الزبائن المستعدين لشراء حقائب قد يصل سعر البعض منها مليون ريال بحجة عدم توفرها، وهي في الحقيقة موجودة في مكان ما خلف المعرض!
وتُعّد الأزمة المالية العالمية 2008 مثالاً آخراً لمعضلة الإيمان الراسخ بالعقلانية وبقوة اليد الخفية في الاقتصاد، وأن الأسواق والمؤسسات بشكلٍ عام تنظم نفسها بطريقة مثالية. فقد اعترف (آلان غرينسبان)، الرئيس السابق للاحتياطي الاتحادي الأميركي الذي تم وصفه ذات مرة باعتباره (أعظم مصرفي على الإطلاق)، أن الأزمة المالية العالمية كشفت عن (خطأ) في مبدأ السوق الحر، وذلك بافتراض أن المصالح الذاتية للهيئات، وخاصة البنوك وغيرها، كانت هي الأقدر على حماية مساهميها وأسهمها في المؤسسات.
لقد تبين للاقتصاديين مؤخراً أن اللاعقلانية هي اليد الخفية الحقيقية التي تحرك عملية صنع القرار البشري. ففي عالم متغير وسريع جداً يبدو أنه لم يعد هناك مكان للاقتصاد الكلاسيكي كما اعتدنا أن نعرفه، والذي يقوم على مبدأ أساسي يفترض أن البشر يتخذون قرارات عقلانية فقط، إذ ظل الاقتصاديون التقليديون يؤمنون بأن الفلسفة الاقتصادية تعمل في حياتنا اليومية منذ أن تستيقظ من نومك وتبدأ في اتخاذ القرارات الرشيدة سواء كانت صغيرة أوكبيرة، وأن آلية صنع القرار ستتم من خلال وزن الخيارات المختلفة أو البدائل بناء على المعلومات والأدلة واختيار البدائل التي تحقق أكبر منفعة.
وبسبب افتراضنا التقليدي للعقلانية والمعلومات الكاملة فإننا نؤمن بأن صناع القرار في الاقتصاد من أفراد وشركات وحكومات سيسعون إلى تحقيق أقصى فائدة ممكنة مع تقليل التكاليف، لكن التجارب تشير إلى أن العديد من الجوانب الواقعية للسلوك الإنساني غير عقلانية وغير مدروسة في النظريات الاقتصادية التقليدية.
وهذا ما دفع رواد وخبراء الاقتصاد السلوكي إلى الدراسة المستفيضة للدوافع والعوامل التي تحدد السلوكيات غير المنطقية مثل تأثير الهبة، وقوة التوقعات، والمقارنات الاجتماعية، والتحيزات بمختلف أنواعها، وتأثير تثبيت الخيارات، وتكلفة المجانية، والثمن الباهظ للملكية، ومفهوم إرهاق القرار وغيرها من المفاهيم السلوكية الأخرى.
بل إن بعضهم يذهب في أبحاثه إلى استعمال فحوصات الدماغ من خلال تقنية التصوير المغناطيسي بهدف تحديد النشاط في مناطق معينة من الدماغ، ثم مقارنة هذه البيانات بالقرارات لفهم آلية صنع القرار الاقتصادي. وقد توصلت بعض التجارب إلى نتائج مشوقة، فالكثير من عملية صنع القرار يتم فعلاً اتخاذها على مستوى اللاوعي والعاطفة.
وأنه عندما نفكر في القضايا البسيطة مثل الحسابات الصغيرة تميل مناطق الدماغ المرتبطة بالتخطيط العقلاني إلى أن تكون أكثر نشاطاً. ولكن عند التفكير في الأنشطة الصعبة والمهمة، مثل الاستثمار في عمل تجاري كبير، تصبح مناطق الدماغ المرتبطة بالعاطفة أكثر نشاطاً. وبعد ذلك، يحدث شىء طريف للغاية، يوافق الجزء العقلاني من الدماغ، ويبدأ في البحث عن الأدلة التي تدعم الدماغ العاطفي؛ أي يصبح حليفاً في البحث عن الأسباب التي تجعل الاختيار العاطفي جيداً، كل هذا يحدث بسرعة كبيرة وبدون إدراكنا.
وربما تعني هذه التجارب أننا كاقتصاديين قد لا نضطر للاعتماد على البيانات التاريخية فقط لمعرفة كيف تصرف الناس في الماضي، أو النماذج الإحصائية القديمة التي تحاول التنبؤ بكيفية استجابة الأفراد، وإنما ستسمح الأبحاث الجديدة لخبراء الاقتصاد بالنظر مباشرة إلى الدماغ وتقديم تنبؤات أكثر دقة حول ما سيفعله الناس.
ويمكن للشركات والحكومات حين ذاك الاستثمار في التجارب السلوكية لتحسين عملية صنع القرار بشكل جذري عند تقديم منتجات جديدة أو تبني إستراتيجيات للإنتاج والتسعير والاستثمار، أو تبني سياسات عامة مقترحة وتقديمها للمواطنين.
ويدرك المتأمل لهذه التجارب والأمثلة الواقعية أن القوى الخفية مثل السلوك اللاواعي والعوامل النفسية والديناميكيات الاجتماعية الواسعة والقيود الإدراكية والتأثير العاطفي يقوض من المصالح المثلى المفترضة لصناع القرار في الاقتصاد. ويُعّد استكشاف هذه القوى الخفية وفهم الأنماط المتوقعة لهذا النوع من السلوك فضلاً عن إمكانية التحكم فيها أحد أهم تطبيقات الاقتصاد في العالم الحقيقي للتأثير في السياسات العامة وتحسين عملية صنع القرار البشري.
ولقد أدركت حكومات العالم أهمية فهم السلوك البشري من أجل تصميم السياسات واتخاذ القرارات بشكل أفضل، فتم إنشاء وحدات للبصائر السلوكية ووحدات الدفع (Nudge units) في أنحاء العالم لتحسين عملية صنع القرار عن طريق تطبيق المبادئ السلوكية.
وكانت أول وحدة للرؤى السلوكية عام 2010م في المملكة المتحدة تحت إشراف مكتب مجلس الوزراء، وتبعتها بعد ذلك الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وهولندا وألمانيا، ثم بعد فترة وجيزة الهند وإندونيسيا وبيرو وسنغافورة، ثم تلا ذلك العديد من الدول الأخرى. وفي المملكة العربية السعودية تم تأسيس فريق للتحفيز الصحي في وزارة الصحة عام 2018 لتطبيق العلوم السلوكية في القطاع الصحي من أجل تحسين صحة المجتمع ورفاهيته بدعم تقني من البنك الدولي.
ونظراً لأن التجربة السلوكية لا يمكن تطبيقها في كل البلدان بنفس الطريقة، فما يصلح لمجموعة من الناس قد لا يصلح لمجموعة أخرى؛ وذلك لاختلاف البيئات والسياق الديني والثقافي والاجتماعي والقانوني، فإنه سيكون من المفيد للسعودية تأسيس وحدات للبصائر السلوكية في جميع المجالات التي تمثل نتائجها مدخلات لصنع السياسات، تنضم إلى أشكال التدخلات الأخرى كالحوافز واللوائح والضوابط. ومن الممكن أن تكون الجامعات ومراكز الأبحاث النواة لتأسيس تلك الوحدات.
وإذا استطاع علماء الاقتصاد السلوكي تطوير تجاربهم على نطاق أوسع باستعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي وتمكنوا من رصد الأنماط المختلفة للسلوك البشري (غير العقلاني) وتوثيق وتفسير الانحرافات في النموذج العقلاني التقليدي والتي يمكن رؤيتها في العالم الحقيقي وإدخال هذه الأنماط في الحسبان؛ فإن ذلك قد يحدث ثورة كبيرة لتطوير النظريات الاقتصادية التقليدية، وتنمية القدرة التفسيرية والتنبؤية لتلك النظريات من خلال تزويدها بدوافع نفسية حقيقية.
وسنتمكن حينها من تطوير النماذج الاقتصادية والتحليلات الفنية بشكل كبير جداً، وسنتخطى فرضية بقاء العوامل الأخرى على حالها، إذ إن أحوال العوامل الأخرى جميعها ستصبح معلومة. وسوف يكون بمقدور خبراء الاقتصاد تقديم مقترحات السياسات العامة (الأنسب) واقعياً للحكومات والقابلة للتطبيق، وليست بالضرورة (الأمثل) وفقاً للنظرية الاقتصادية التقليدية.
إن دمج النماذج الاقتصادية التقليدية مع رؤى الاقتصاد السلوكي سيعزز فهمنا للسلوك البشري، وسيمكن الاقتصاديين من تضمين السلوكيات غير العقلانية مثل العواطف والتحيزات ضمن تحليلاتهم الفنية ونظرياتهم الاقتصادية؛ مما يؤدي إلى خيارات أكثر موضوعية وتحسين عملية صنع القرار البشري. ففي عالم دائم التطور والتغيير، وبيئة عمل ذات مستوى عالٍ من الغموض، وسقف طموحات كبيرة للمسؤولين، فإن فهم آلية اتخاذ القرار مهمة للاقتصاديين والسياسيين والإداريين. وسيظل دور الاقتصاد في عملية صنع القرار ورسم السياسة أمراً لا غنى عنه، ويمكن للاقتصاد السلوكي تحسين هذه العملية وتحقيق التفاعل اللازم في جميع مراحلها المختلفة عن طريق فهم سلوك الأفراد، بدلا من افتراض اتخاذ قرارات عقلانية بحتة، قد لا تقود بالضرورة إلى قرارات أو سياسات واقعية ومقنعة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال