الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
منذ أشهر وأنا متوقف عن القيادة في الرياض، واعتمد في تنقلاتي داخل العاصمة على التطبيقات فيما عدا عند وصولي للمطار أستقل التاكسي الأخضر، والسبب أنه منظم (في سرى) ويشغل العداد، فلا نقاش ولا تفاوض، والسيارات نظيفة وحديثة نسبياً. غير أني ونتيجة لنقاش عن الكدادة دار في إحدى “الغبقات”، قررت قبل أيام أن أستفيد من خدمة الكدادة من المطار إلى وسط الرياض. ووجدت عدد من الكدادة ينتظرون عند ردهة الوصول، فما ان نظرت إلى أحدهم، حتى بادرني: “الحمدلله على السلامة، مشوار؟ “وباعتبار أني مبيت النية، فقد سارعت بسؤاله كم التكلفة إلى مقصدي؟ وبسرعة البرق أخرج عبدالله جواله سائلاً عن اسم الموقع، وعندما ظهر له، عاود سؤالي للتأكد أنها الجهة التي أقصد. اتفقنا على السعر، فسألته عن سيارته وأخبرني، وطلب مني الانتظار لدقائق. عاد بسيارة حديثة نوعاً ما ونظيفة، أما الرحلة فكانت سلسة، وكان الشاب لطيفاً قليل الكلام، يجيب على قدر السؤال، وقيادتهُ احترافية.
ولمن لا يعرف، فظاهرة “الكدادة” في السعودية هي مهنة غير مُنظمة، وهي مشتقة من كلمة فصيحة هي “الكد” أي طلب الرزق، وتقوم المهنة على نقل الركاب باستخدام سيارات الأفراد الخاصة مقابل أجر مادي. والظاهرة ليست مستجدة، إذ بدأت منذ عقود في المطارات ومواقف الحافلات والقطارات لنقل الركاب بين المدن الكبرى. ومع مرور الوقت توسعت لتشمل النقل داخل المدن، خاصة في أوساط المغتربين والمواطنين الذين يبحثون عن وسيلة نقل مريحة وسريعة، مثل النساء اللواتي ليس لديهن سائق خاص.
تتميز “الكدادة” بأنها لا تتطلب سوى توفر السيارة الخاصة، وأهم مزاياها أنها مرنة في ساعات عملها، مما جعلها جذابة للشباب، لاسيما الطلاب الذين يسعون لتغطية مصروفاتهم. ولبعض الموظفين لتحسين دخلهم. وما يميز الكدادين أنهم عموماً يمتلكون معرفة جيدة بمداخل ومخارج المدن والطرق المختصرة، مما يجعلهم مفضلين لدى بعض الركاب، فضلاً عن أن سعر خدمتهم أقل مقارنة بشركات النقل المرخصة وسيارات الأجرة، وينشط الطلب على هذه خدمات الكدادة في أوقات الذروة والمواسم لاسيما رمضان، والأعياد، والعطل المدرسية، بسبب قصور سيارات الأجرة عن تلبية الطلب.
مع ذلك، يواجه “الكدادة” تحديات كبيرة، مع تعدد وسائل التنقل وانتشار تطبيقات مشاركة الركوب (ride hailing)، والسماح للمرأة بقيادة السيارة، وتشغيل خدمة المترو مؤخراً. وتقليدياً تنافس مهنة “الكدادة” بشراسة سيارات الأجرة، إذ أن كلاهما يتنافسان على ذات الزبائن. أما من الناحية النظامية، فتعتبر مهنة “الكدادة” مخالفة لأنظمة النقل في المملكة، التي تحظر استخدام السيارات الخاصة لنقل الركاب تجاريًا، ولذا تفرض هيئة النقل العام غرامات تصل إلى 5000 ريال على المخالفين.
أثناء رحلتي مع عبدالله سألته: لماذا لا يسجل ككابتن في أحد التطبيقات مثل “أوبر” أو “بولت”؟ قال: “ياخذون علي فلوس واجد، أنا أبي مكدتيّ لي وحالاً.”
هل حظر الخدمة وإيقاع الغرامات على المخالفين يعتبر حلاً؟ لا، قد يعتبر إجراء لكنه ليس حلاً لاستيعاب خيار قائم لكنه ليس منظماً، مما يعني أن الحل هو بتنظيم هذه الظاهرة بدلاً من حظرها، فما يقوم به هؤلاء الشباب هو نمط من أنماط العمل الحر. فمثلاً لو أراد سباك أن يقدم خدماته، سيكون بوسعه عمل ذلك بمجرد حصوله على وثيقة العمل الحر المعتمدة من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، التي تتيح للأفراد فرص ممارسة العمل بشكل مستقل في عدد من الأنشطة من خلال البوابة الالكترونية للعمل الحر. وهي مبادرة نوعية إذ تمنح للمارس وثيقة سجل يؤهله للعمل الحر في نشاط محدد، بما يُمَكنه من “الكد”، وتمنحه فرصة لفتح حساب مصرفي تجاري، وتقدم حلول دفع رقمية، فضلاً عن أن الوثيقة تمنحه فرصة للتسجيل اختيارياً في التأمينات بما يمكنه من الحصول على معاش تقاعدي عند الاستحقاق. وتشمل منصة العمل الحر مجموعة كبيرة من الأنشطة، مثل النقل الموجه (أي من خلال التطبيقات) وتوصيل الطلبات والحرف اليدوية وعربات الأطعمة والإرشاد السياحي.
ولتجنب المنافسة غير المنظمة، وللتعامل إيجابياً مع الظاهرة، فلعل المخرج هو تنظيم المهنة بدلاً من حظرها، فذلك سيعني احتضان هذه المهنة والحد من ممارستها عشوائياً، وسيؤدي ذلك إلى إنشاء سجل بالكدادين ضمن مبادرة العمل الحر بالتنسيق مع الجهات المسؤولة عن تنظيم قطاع النقل، بما يتيح الفرصة لتوفير ممكنات كتخصيص مواقف للكدادة، ووضع تسعيرة لخدماتهم، وحتى إنشاء تطبيق يخدم الركاب والكدادة في آنٍ معاً. وبالتأكيد فإن المكسب الأهم هو توفير مسار للعمل للشباب السعودي الباحث عن الرزق. ويبدو أن لا مناص من التداخل إذ أن مهنة “الكدادة” دامت عقوداً خارج التنظيم، ويبدو أنها ستستمر، ويمكن القول أن استمرارها منظمة أفل من بقائها في المنطقة الرمادية من اقتصادنا الوطني.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال