الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين دخلت التكنولوجيا حياتنا، بدت كهدية مريحة، سهّلت تواصلنا، وسرّعت أعمالنا، وفتحت لنا نافذة على العالم بضغطة زر. لم يقتصر تأثيرها على التواصل فقط، بل امتد إلى الاقتصاد أيضًا، فاختصرت المسافات بين رواد الأعمال والعملاء، وعززت التجارة الرقمية، وجعلت الأسواق المالية أكثر انفتاحًا، حيث أصبح التداول في الأسهم والعقارات يتم عبر تطبيقات سريعة بدلاً من مراجعة مكاتب الوساطة، وصار التخطيط المالي واتخاذ القرارات الاقتصادية أسرع وأسهل من أي وقت مضى. لم نعد ننتظر الرسائل أيامًا، ولا نبحث عن الأخبار في الصحف صباحًا، بل أصبح كل شيء حاضرًا في أيدينا، يصلنا في لحظته، بلحظاته المتتابعة. ومع هذا الانفتاح السريع، لم ندرك أن لكل كلمة نكتبها عمرًا أطول منا، وأن ما نتركه في هذا العالم الرقمي قد يصبح جزءًا من إرثنا الذي لا يزول.
ما تكتبه اليوم قد يبقى شاهدًا لك أو عليك بعد رحيلك، فالكلمة التي تطلقها قد تكون صدقة جارية، أو ذنبًا لا يتوقف أثره. منشور عابر، تعليق ساخر، صورة غير مسؤولة، أو حتى مقطع يروّج لفكرة سلبية… كلها قد تعيش أكثر مما تتخيل، تتناقلها الأيدي، وتتحول إلى ذكرى رقمية لا تُمحى. وقد نوه خطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر المعيقلي في خطبة صلاة الجمعة قبل شهر رمضان، عن أثر ما يتركه الإنسان في مواقع التواصل، وأنه يبقى له أو عليه حتى بعد وفاته، فإن كان خيرًا استمر أجره، وإن كان شرًّا استمر وزره، وهو ما يجعل من الكلمة مسؤولية عظيمة لا تقتصر على لحظة نشرها، بل تمتد تبعاتها إلى ما بعد الحياة.
لم يعد تأثير مواقع التواصل يقتصر على المحتوى المكتوب أو المرئي، بل امتد إلى النفوس، فأصبح بابًا للضغوط والمقارنات. مشاهد مثالية، نجاحات متكررة، رفاهية معروضة… كل ذلك يدفع الكثير إلى التركيز على ما يفتقدونه بدلًا من تقدير ما يملكونه، خاصة الأطفال والنساء الذين يتأثرون بصريًا وعاطفيًا بهذه الصور، فيرون حياتهم أقل قيمة، وواقعهم أقل إشراقًا. هذا لا يؤثر فقط على الرضا النفسي، بل ينعكس على القرارات المالية، إذ تدفع هذه الصور الكثيرين إلى إنفاق غير ضروري لمجاراة هذا النمط، ما يؤثر على الاستقرار المالي للفرد والأسرة. فمع الترويج المستمر لأنماط استهلاكية غير واقعية، يجد البعض أنفسهم يلاحقون معايير لا تنتهي، ما يؤدي إلى قرارات مالية غير محسوبة وإدمان الشراء بدافع اللحاق بالمظهر الاجتماعي الذي ترسمه مواقع التواصل.
تسلل الهاتف إلى كل لحظة، حتى أصبح جزءًا من المجالس، فصار المشهد مألوفًا: عائلة تجلس في مكان واحد، لكنها منفصلة، كل فرد غارق في شاشته. حتى في المقاهي واللقاءات، لم يعد الحديث متصلًا، بل متقطعًا بين إشعارات وتعليقات ورسائل لا تنتهي. أصبح الإدمان الرقمي يسرق منا لحظاتنا الحقيقية، ويجعل التواصل المباشر أقل عمقًا، وأكثر سطحية.
في هذا العالم المتسارع، لا أحد يطلب منك أن تنعزل عن التقنية، لكن الأهم أن تدرك أثر ما تتركه خلفك. مسؤوليتك ليست فقط فيما تنشره، بل فيما تعيشه، فيما تؤثر به، وفيما تسمح له بالتأثير عليك. ما تكتبه اليوم قد يكون أجرًا مستمرًا أو عبئًا ثقيلًا بعد رحيلك، وما تستهلكه قد يصنع سعادتك أو يحرمك منها. فليكن وعيك الرقمي حاضرًا، ولتكن كلماتك شاهدة لك لا عليك. وفي ظل هذا العالم الرقمي، يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة للنمو الاقتصادي والاستفادة المالية، سواء عبر الاستثمارات الرقمية، أو بناء محتوى هادف يحقق أثرًا إيجابيًا، بدلًا من أن يكون مجرد استهلاك يضر بالنفس والمال.
ختامًا…
كمحب لكم، أقول لكم: احرصوا على أن يكون ما تتركوه في هذا العالم الرقمي شاهدًا لكم لا عليكم، فكلمتكم قد تبقى بعدكم، فاجعلوها خيرًا يمتد نفعه. لا تنشغلوا بالمقارنات التي تسرق منكم الرضا، ولا تسمحوا للمحتوى السلبي أن يؤثر على سعادتكم. استخدموا التقنية بوعي، وتذكروا أن ما تكتبوه وتشتركون فيه قد يكون إرثًا لا يُمحى، فاجعلوا أثركم طيبًا وكلمتكم مسؤولية. فليكن وعيكم الرقمي حاضرًا، ولتكن كلماتكم شاهدة لكم لا عليكم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال