الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
المدن ليست مجرد شوارع وأبنية، بل أرواح تنبض بالحكايات والتاريخ، وملامح تعكس طابعها الفريد. هويتها ليست مجرد شعار بصري (Logo)، بل نسيج متكامل من الطراز العمراني، والموقع الجغرافي، والثراء الثقافي، والموروث الشعبي من قصائد وأساطير، وأغانٍ ورقصات، وحتى الأكلات التي تميزها. إنها لوحة فسيفسائية تتداخل فيها التفاصيل لتشكل شخصية المدينة وتمنحها حضورها المتفرد.
كما أن تعزيز هذه العناصر وصياغة نظام بيئي متكامل لكل مدينة يعدّ ضرورة استراتيجية. فكلما ازدادت وضوحًا، تحولت إلى مصدر إلهام وجذب، سواء لاستقطاب السياح، أو تحفيز الاستثمارات، أو استضافة الفعاليات الكبرى. وهوية المدن ليست مجرد صورة تسويقية، بل حالة من الانتماء والاعتزاز لسكانها، ورسالة متجددة تنبض بالحياة، تدفعها إلى منافسة نظيراتها عالميًا بوعي وإبداع.
ولطالما ارتبطت المدن العظيمة بألقاب تحولت إلى بصمات خالدة في ذاكرة العالم، فأصبحت “مدينة النور” مرادفًا لباريس، و”مدينة الضباب” توقيعًا للندن، و”التفاحة الكبيرة” هوية غير رسمية لنيويورك، و”عاصمة الموضة” عنوانًا لميلان، و”عاصمة السلام” رمزًا لجنيف، و”مدينة المرفأ” تعبيرًا عن سيدني. لم تكن هذه الألقاب وليدة الصدفة، بل نتاج جهود متراكمة في الإعلام، والأدب، والسينما، حولت المدن إلى رموز ثقافية واقتصادية وسياحية لا تُنسى.
وفي مملكتنا الحبيبة ، برغم آن بعض مدننا تمتلك ألقابًا محلية محببة مثل “أم القرى” لمكة المكرمة، و”طيبة” للمدينة المنورة، و”عروس البحر الأحمر” لجدة، و”عروس المصائف” للطائف. إلا أن هذه الألقاب، رغم مكانتها، لم تجد طريقها إلى التداول العالمي كما هو الحال مع نظيراتها الدولية. هنا يكمن التحدي: كيف يمكننا إعادة تعريف مدننا بألقاب تعبر عن جوهرها، وتُروّج لها عالميًا، وتجعلها جزءًا من السردية الحضرية العالمية؟
ثم إنك حين تزور مدينة جديدة، ما الذي يجعلك تشعر أنك في قلبها؟ غالبًا ما تكون المعالم البارزة هي الإجابة. إنها بصمة المدينة التي تترسخ في الأذهان، وتجربة الزائر التي تتحول إلى ذكرى خالدة. الأرقام تتحدث بوضوح: برج إيفل يجذب 6.6 مليون زائر سنويًا، وبرج خليفة يحقق رقمًا مذهلًا يصل إلى 17 مليون زائر، بينما يستقطب تمثال الحرية نحو 5 ملايين زائر سنويًا. هذه المعالم ليست مجرد نقاط جذب، بل علامات بصرية تُلخص روح المدينة، وتُسهم في صناعة اقتصادها السياحي، وتُروّج لها بلا توقف عبر ملايين الصور والذكريات.
في المملكة، هناك معالم رائعة، لكنها لم تُستثمر بالشكل الذي يجعلها رموزًا عالمية. برج المياه وبرج التلفزيون في الرياض كانا أيقونات بارزة، لكن التمدد العمراني أخفاهما عن المشهد البصري للمدينة. في جدة، لا تزال نافورة الملك فهد تحافظ على حضورها، بينما فقدت بعض الميادين منحوتاتها التي كانت تميزها، فإما اختفت تدريجيًا أو أُهملت.
إن إعادة تعريف هوية المدن السعودية تحتاج إلى رؤية إبداعية تضع معالمها في الواجهة، وتصنع منها تجارب متكاملة لا تُنسى. فالمعالم ليست مجرد مواقع، بل قصص تُحكى، وصور تُلتقط، وتذكارات تُحمل إلى العالم. فهل سنرى قريبًا مجسمات تذكارية للمربع الجديد، أو محطة قصر الحكم، أو المصمك، أو قصر سلوى، يحملها المسافرين حول العالم؟ وهل ننجح في رسم مدننا في مخيلة العالم كوجهات لا تُنسى؟
هذه الأسئلة وأكثر ستكون محور مقالاتنا القادمة في سلسلة “تسويق المدن”، حيث سنغوص في أعماق بناء الهوية الحضرية، ونستكشف كيف يمكن للمدن أن تتحول من مجرد أماكن إلى تجارب تُعاش، وذكريات تُروى، وأحلام تُسافر عبر الحدود.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال