الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
وسط مشهد تتقاطع فيه المصالح وتتعارض التوجهات، يقف نظام التأمين الصحي في قلب صراع غير معلن بين تحقيق الربح وتقديم الخدمة. بين أروقة المستشفيات ومكاتب شركات التأمين، يدور جدل واسع حول إصلاح آلية الموافقات الطبية التي طالما أرهقت المرضى، وحفّزت أطرافًا أخرى على استغلال ثغرات النظام لتحقيق مكاسب إضافية. بينما ينتظر المرضى بفارغ الصبر خطوة تنهي معاناتهم مع تأخر العلاجات، تلوح في الأفق مخاوف من اشتعال صراع المصالح بين الأطراف المختلفة. ترى، هل يمكن للنظام الجديد أن يوازن بين الربح والخدمة؟ وهل سيبقى المريض في نهاية المطاف مستفيدًا أم ضحية؟.
أثار تصريح المهندس ناجي التميمي، الرئيس التنفيذي لهيئة التأمين، نقاشاً واسعاً حول مستقبل الموافقات التأمينية على خدمات التأمين الصحي في المملكة. جاء هذا الإعلان ليعكس بوادر إصلاح يهدف لمعالجة أزمة طالما أرهقت المتعاملين مع شركات التأمين. وكما أكد التميمي، فإن تأخير الموافقات أو رفضها أدى إلى تضرر العديد من المستفيدين، ما خلق حلقة معقدة من الإشكالات بين المستشفيات، مزودي الخدمات الصحية، وشركات التأمين.
الدراسة التي تجريها الهيئة بالتعاون مع جهات مختصة تهدف إلى استكشاف إمكانية إلغاء الموافقات التأمينية التي تربط المستفيد بمزودي الخدمة. هذا التوجه يأتي في ظل حرص الهيئة على تحسين تجربة المستفيدين من خدمات التأمين الصحي، مع الحفاظ على التوازن بين تقليل الأعباء المادية ومنع الهدر المالي. ومع ذلك، أشار التميمي إلى أن إلغاء الموافقات قد يفتح الباب أمام تحديات مالية محتملة، مثل زيادة التكاليف وارتفاع أسعار التأمين الصحي.
تعتبر تجربة السعودية جزءاً من سعي عالمي لتطوير أنظمة التأمين الصحي، حيث تسجل بعض الدول نجاحات بارزة في هذا المجال. على سبيل المثال، يُعد نظام التأمين الصحي في تايوان أحد أفضل الأنظمة عالميًا، حيث يضمن تغطية شاملة لجميع المواطنين منذ ولادتهم. أما على صعيد الشركات، فإن أسماء عالمية مثل Cigna HealthCare وذات سجل متميز في الجودة، تُعد نموذجًا للشركات التي تلتزم بتقديم خدمات صحية بكفاءة وأخلاقيات عالية.
تبرز تحديات واضحة في ظل هذه الدراسة، حيث يُقدر إجمالي أقساط التأمين المكتتب بها في السعودية خلال عام 2022 بحوالي 53.4 مليار ريال، منها 31.8 مليار ريال خُصصت للتأمين الصحي وحده، وهو ما يشكل 60% من إجمالي الإنفاق على التأمين في المملكة. هذه الأرقام الضخمة تُسلط الضوء على أهمية هذا القطاع، لكنها أيضًا تثير شهية المستشفيات وشركات التأمين لزيادة أرباحها من خلال طلب فحوصات وعلاجات إضافية في بعض الأحيان، أو عبر استراتيجيات تقليل المصروفات من جانب شركات التأمين، مما يجعل المريض العالق الرئيسي في هذه المعادلة.
المتابعون على منصات التواصل اثاروا آراء متباينة حول إلغاء الموافقات. من جهة، رأى البعض أن القرار إذا ما تم تطبيقه، قد يُسهّل الحصول على الخدمات الصحية ويخفف من عناء انتظار الموافقات، خصوصًا في الحالات الطارئة. بينما عارض آخرون الخطوة، مشيرين إلى أن غياب الموافقات قد يؤدي إلى استغلال بعض المستشفيات للنظام، عبر طلب إجراءات وتشخيصات مكلفة دون داعٍ، مما يزيد الضغط على ميزانيات شركات التأمين.
فيما قدّم البعض مقترحات لمعالجة هذه الإشكالية، تضمنت إنشاء ملف طبي إلكتروني موحد يربط بين جميع المستشفيات وشركات التأمين لمتابعة تاريخ المريض والعلاجات المقدمة، إضافة إلى الاستعانة بالذكاء الصناعي لكشف أي تجاوزات في التشخيص أو التكاليف. كذلك، تم اقتراح وضع سقوف سنوية لتكاليف العلاج لكل شركة تأمين لتحديد إطار مالي عادل لجميع الأطراف.
من منظور اقتصادي، يبدو أن معالجة هذه الأزمة تتطلب خطوات مدروسة لضمان استدامة القطاع الصحي. إعلان الهيئة عن نيتها نشر تقارير لمؤشرات أداء شركات التأمين يعزز الشفافية ويدفع الشركات لتحسين خدماتها وكسب رضا العملاء. هذه التحركات تُبشر بمرحلة جديدة من الإصلاحات التي تهدف إلى الارتقاء بجودة الحياة الصحية في المملكة، مع الحفاظ على التوازن بين مصلحة المستفيدين والكفاءة المالية للقطاع. بهذا النهج، تواصل المملكة وضع الأسس نحو بناء نظام تأمين صحي يُحقق الرعاية الصحية الشاملة بطريقة عادلة ومستدامة، بما يتماشى مع التجارب العالمية الرائدة في هذا المجال.
تحقيق التوازن بين مصالح جميع الأطراف في نظام التأمين الصحي يتطلب حلولًا عملية وذكية. يمكن البدء بإنشاء نظام ملف طبي إلكتروني موحد يربط المستشفيات وشركات التأمين لتوثيق التاريخ الصحي لكل مريض بشكل شامل، مما يمنع التكرار غير الضروري للفحوصات ويسهل تتبع التشخيصات والعلاجات بدقة.
مع هذا النظام، يصبح الذكاء الصناعي أداة فعالة لتحليل البيانات الصحية وكشف التجاوزات في المطالبات أو التكاليف، مما يعزز من كفاءة النظام ويقلل من الهدر المالي. لتعزيز الشفافية، من الضروري وضع معايير واضحة ودقيقة للفحوصات الطبية المطلوبة بناءً على الحالات الطبية، وتفعيل آلية موافقات ذكية تعتمد على تحليل البيانات الفوري، بحيث تسرّع من عملية الموافقة دون إرباك المرضى أو تعطيل العلاج. هذه الآليات يجب أن تكون مدعومة بمراجعات دورية لأداء المستشفيات وشركات التأمين، مع نشر تقارير تفصيلية حول الطلبات المرفوضة ونسبة الشكاوى لكل جهة، مما يضمن مساءلة المستشفيات وتحفيزها على تقديم خدمات صحية عالية الجودة.
في سياق تحسين النظام، لا بد من فرض عقوبات صارمة على المخالفات التي تتضمن طلب فحوصات زائدة أو تقديم علاجات لا تتناسب مع الحالة الطبية للمريض. ولمنع الاستغلال المالي، يمكن وضع سقوف سنوية متغيرة لتكاليف العلاج بناءً على تقييم دقيق للحالات الصحية لكل مريض، مما يحد من الإسراف ويضمن التوازن بين التكلفة والجودة. تثقيف المرضى يمثل ركيزة أساسية في هذا النظام، حيث يعزز وعيهم بحقوقهم وكيفية الإبلاغ عن التجاوزات، مما يساهم في تحسين العلاقة بين جميع الأطراف. ولضمان حل النزاعات بسرعة وعدالة، يمكن إنشاء لجنة مستقلة تختص بفصل النزاعات بين المرضى، المستشفيات، وشركات التأمين. هذه اللجنة ستكون عنصرًا أساسيًا في تعزيز الثقة المتبادلة بين الأطراف المختلفة.
بتطبيق هذه الإجراءات المتكاملة، يتم تحقيق نظام تأمين صحي متوازن، يلبي احتياجات المرضى بكفاءة، ويحمي مصالح شركات التأمين من الهدر، ويحد من أي استغلال قد يحدث من المستشفيات، ليصبح نموذجًا يحتذى به في تقديم الرعاية الصحية المستدامة.
مع وصولنا إلى هذه النقطة المهمة، نجد أن هذه الخطوة المرتقبة قد أثارت ارتياح المرضى الذين يطمحون إلى الحصول على العلاجات والكشوفات الطبية بسهولة ودون تأخير. إلا أنها، في الوقت ذاته، قد تفتح بابًا جديدًا للخلاف بين المستشفيات وشركات التأمين حول التكاليف وهامش الربح، مما يزيد من تعقيد المشهد. ورغم ذلك، يبقى الأمل معقودًا على أن تُحل هذه الخلافات بما يحقق مصلحة المريض، الغالب دائمًا وأبدًا، فهو الأحق بالحصول على رعاية صحية عادلة وشاملة تعزز من جودة حياته.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال