الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تخيّل أن تركيا بكل أسواقها العابقة بالتوابل، ومتاحفها القديمة، وشواطئها التي تطل على بحر مرمرة، فجأة.. قررت أن تُغلق أبوابها في وجه السائح.
لا زائر روسي يحمل هداياه، لا سيدّة آسيوية تلتقط صورة لكوب الشاي، لا سيارة أجرة تلتف في شوارع السلطان أحمد، ولا فندق يشعل مصابيحه عن الغروب. يبدو المشهد هادئًا.. نعم أكثر مما ينبغي، لكن هذا الهدوء، اقتصاديًا، هو ركود، يُخبر بسكتة قلبية.
في تركيا، تشكّل السياحة ما يقارب 12% من الناتج المحلي الإجمالي. وببساطة: من بين كل عشرة ريالات يُنتجها الاقتصاد سنويًا، ريال واحد منها يأتي من السائح. إذن، ماذا يعني أن تُمحى السياحة من دفتر اقتصاد يعتمد عليها؟
يعني أن 3.2 مليون وظيفة تتبخر، من موظف استقبال فندق في إسطنبول، إلى بائع العسل في طرابزون، إلى مطوّر تطبيقات الحجوزات، إلى عامل النظافة الذي يُعيد ترتيب الغرف بعد رحيل الزوار. يعني أن 35 مليار دولار من العملة الأجنبية تتوقف عن التدفق، فتبدأ الليرة التركية بفقدان توازنها، وتضيق أنفاس البنك المركزي، وتُعاد كتابة بنود الميزانية تحت ضغط لا أحد اختاره.
يعني أيضًا أن آلاف الفنادق تُطفئ أنوارها، والمتاحف تعود إلى صمتها، والمطاعم تعود إلى مقاعدها الخالية. أما الدولة، فتحاول تعويض الغياب بالاقتراض، أو رفع الضرائب، أو خفض الإنفاق. والمفارقة؟ أن الحكومة والمواطن سيدفعوا -مجازيًا وحرفيًا- فاتورة زائر لم يأتِ.
جائحة كورونا أعطتنا نسخة حية لهذا السيناريو. خلال عام 2020، تراجع عدد السيّاح في تركيا بأكثر من 65%، وخسرت ما يزيد عن 20 مليار دولار خلال عام واحد. كان من السهل التفكير أن المشكلة مؤقتة، وأننا قادرون على تجاوزها، لكن الحقيقة؟ أننا لم نُدرك ما الذي يعنيه غياب السائح إلا حين عاد أثره السلبي إلى تفاصيل الحياة اليومية.
في لحظة كهذه، يجب أن نُدخل إلى المقال مفهوماً اقتصادياً يُسمى: “المضاعف المالي – Money Multiplier” حين يدفع السائح 100 ريال مقابل ليلة فندقية، لا تتوقف القصة عند الاستلام. بل تبدأ رحلة جديدة: جزء من المبلغ يتحوّل إلى راتب موظف الاستقبال، الذي يشتري به خبزًا من بقالة الحي، التي تشتري من مزرعة قمح، التي تدفع لعامل، الذي يُسدد رسوم مدرسة، التي تُوظّف معلمًا، يشتري كتابًا من مكتبة محلّية. سلسلة تمتد بلا نهاية واضحة. بعض الدراسات تُشير إلى أن كل ريال يُنفقه السائح قد يولّد ما بين 1.7 إلى 2.5 ريال داخل الاقتصاد، دون أن يُطبع ريال إضافي واحد.
دعنا الآن ننتقل من إسطنبول إلى الدمام. في مساء ربيعي من مارس كالذي نمر به الآن، يصل سائح خليجي إلى مطار الملك فهد. يحجز سيارة أجرة، يتجه إلى فندق على الكورنيش، يتناول عشاءه في بيت الروبيان، ويشتري قهوته المفضّلة من مقهى صغير في الراكة الجنوبية. ينفق 1200 ريال في يوم واحد. في ذهنه، مجرد رحلة قصيرة. في نظر موظف الفندق، يوم عمل ناجح. أما في نظر الريال نفسه، فالرحلة بدأت للتو.
ذلك الريال لا يجلس في يد واحدة. هو كائن اقتصادي عصبي لا يهدأ. ينتقل إلى موظف الفندق، ثم إلى المورد، ثم إلى صاحب المقهى، ثم إلى المحمصة، ثم إلى التاجر، ثم إلى المصرف. نحن هنا أمام ما يُعرف بـ”سلسلة القيمة السياحية – Tourism Value Chain” الخريطة التي توضّح كيف يتحرك الإنفاق السياحي من يد إلى يد، ومن قطاع إلى قطاع، حتى يصل إليك أنت، دون أن تعلم.
وعندما ننتقل من الريال إلى الفرد، يصبح السؤال: ما الذي يمكن أن تفعله السياحة لسوق العمل؟ في قاعة اجتماعات رسمية، يطرح أحدهم فكرة إنشاء مصنع سيارات، مشروع ضخم، لكنه يحتاج إلى سنوات، رأس مال، بنية تحتية، وكفاءات فنية متقدمة. بينما يطرح آخر فكرة بسيطة: ماذا لو أقمنا مهرجانًا موسيقيًا في مدينة لا يعرفها أحد؟ لا وقت طويل، لا مليارات، لا شروط معقدة. من الذي يوظف أسرع؟ المصنع أم المهرجان؟
الحقيقة؟ لا إجابة قاطعة، لا أحد منهما خصمًا للآخر، فلكل قطاع وزنه، ولا صناعة تحلّ محل أخرى. لكن الحقيقة أن السياحة – في كثير من الأحيان – قادرة على توليد الوظائف بوتيرة أسرع، وبقابلية انتشار أوسع، وبرأس مال أقل. بحسب منظمة السياحة العالمية (UNWTO)، فإن وظيفة واحدة من كل عشر وظائف في العالم ترتبط بالسياحة مباشرة أو غير مباشرة.
ولفهم العمق الحقيقي، دعنا نتأمل نموذج هرم الوظائف السياحية. في القمة نجد الوظائف المباشرة: موظفو الاستقبال، الطهاة، المرشدون السياحيون. في منتصف الهرم، الوظائف غير المباشرة: مورّدو الأطعمة، الفنيون، مزوّدو الخدمات. أما في قاعدته، نجد “الوظائف المحفّزة – Induced Jobs”، وهي تلك التي تظهر بسبب إنفاق العاملين في القطاع السياحي على مجالات أخرى: التعليم، الإسكان، التجزئة، وحتى الفن.
هل كل هذه الوظائف دائمة؟ ليس بالضرورة. لكن الأكيد أنها فرص حقيقية، وسوق تجريبية مرنة، تُحرّك العجلة الاقتصادية، وتربط بين الفرد والمجتمع. إنها لا تُغني عن الصناعة، ولا تُبدّل النفط، لكنها تضيف إلى المعادلة الاقتصادية بُعدًا سريع التفاعل.
وحين ننتقل من العمل إلى التجارة، يتغيّر تعريف الصادرات، فالتصدير الكلاسيكي يعني شحن البضائع عبر الموانئ. أما في السياحة، فالأمر مختلف. المستورد هو من يأتي إليك. يستهلك خدمتك داخل بلدك، ويدفع بعملة أجنبية لا تطبعها. وهذا ما يسمى في الاقتصاد بـ”الصادرات غير المنظورة – Invisible Exports” في عام 2019، حققت تايلاند 96 مليار دولار من عائدات السياحة، ما يعادل تقريبًا قيمة صادرات السيارات اليابانية في العام نفسه. لا ميناء، لا شاحنة، لا حاوية.. فقط سائح، وغرفة، وتجربة.
وفي نهاية كل ذلك، نصل إلى الزاوية التي لا يراها كثيرون: متى تتوقف فعِاليّة السائح؟ في الأغلب، يُعتقد أنها تنتهي عند خروجه من الفندق، أو عندما ينشر صورة على التقطها لجزيرة تاروت في القطيف. لكن قليل فقط يرون أن السائح لا يغادر كما جاء، يعود إلى بلده ومعه إحساس اقتصادي ما، إعجاب بشركة محلّية، اهتمام بمنتج سعودي، وربما حتى فكرة استثمارية لمعت في رأسه أثناء تجواله.
الرسالة هنا: قد يكون أن أعظم التحولات الاقتصادية في المدن تبدأ حين يدور ريال السائح في جسد الاقتصاد ثم يعود إلينا على هيئة وظيفة، فكرة، أو استثمار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال