الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهد الاقتصاد تطوراً ملحوظاً حيث لم يعد يقتصر على المفاهيم التقليدية بل ظهر بأشكال متعددة مثل الاقتصاد الدائري واقتصاد المنصات كما ذكرت في مقالات سابقة. ومن بين هذه الفروع الحديثة برز الاقتصاد السلوكي كأحد المجالات التي تجمع بين علم الاقتصاد وعلم النفس لفهم كيفية اتخاذ الأفراد لقراراتهم المالية حيث لم تعد هذه القرارات تعتمد فقط على المعلومات المتاحة والعقلانية المطلقة بل تتأثر بالعواطف والانحيازات المعرفية.
يختلف الاقتصاد السلوكي عن الاقتصاد التقليدي حيث أنه يوضح كيف يتخذ الأفراد قراراتهم بناءً على مشاعرهم وتحيزاتهم بدلاً من اعتمادهم على التحليل العقلاني البحت. تتضمن المفاهيم الرئيسية في هذا المجال الانحيازات المعرفية مثل تحيز التأكيد حيث يبحث الأفراد عن المعلومات التي تدعم قراراتهم المسبقة. وتأثير الإطار الذي يوضح كيف يمكن لنفس المعلومة أن تؤدي إلى قرارات مختلفة بناءً على طريقة عرضها. كما تشمل النظريات الهامة نظرية الاحتمالية التي تشرح كيف يدير الأفراد المخاطر والاستدلالات العقلية التي يعتمدون عليها في اتخاذ القرارات بسرعة مثل الاستدلال التوفيري والارتساء.
يلعب الاقتصاد السلوكي دوراً أساسياً في صنع القرارات المالية حيث يساعد الأفراد على تحسين استراتيجياتهم المالية من خلال فهم العوامل النفسية والاجتماعية التي تؤثر على سلوكهم المالي. على سبيل المثال يواجه العديد من المستثمرين قرارات صعبة عند التعامل مع الاستثمارات عالية المخاطر حيث قد يغريهم العائد المحتمل دون إدراك حجم المخاطر وهنا يأتي دور الاقتصاد السلوكي في توعية الأفراد بضرورة تحليل تحيزاتهم المعرفية مثل تحيز التأكد الذي يجعلهم يبحثون فقط عن المعلومات التي تؤكد قناعاتهم الحالية بدلاً من دراسة جميع الخيارات المتاحة بعقلانية.
في السعودية يُعد فهم سلوك المستثمر السعودي أمراً ضرورياً لدعم الاقتصاد الوطني وتحقيق رؤية 2030 التي تسعى إلى تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار. يعاني بعض المستثمرين من تفضيل المكاسب السريعة على الأرباح طويلة الأجل مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة مثل المضاربة المفرطة في سوق الأسهم. ولتفادي ذلك يمكن استخدام أدوات الاقتصاد السلوكي مثل التسجيل التلقائي في برامج الادخار والاستثمار التدريجي حيث يساعد تقسيم الأهداف المالية إلى أهداف صغيرة على تحفيز الأفراد نحو الاستثمارات المستدامة بدلاً من التركيز على المكاسب الفورية.
كما يلعب الاقتصاد السلوكي دور مهم في التقليل من الديون المفرطة حيث يعتمد بعض الأفراد على القروض الاستهلاكية دون التخطيط الجيد للسداد. هنا يمكن استخدام أدوات سلوكية تحفيزية مثل التذكيرات الذكية بأهمية السداد المبكر وتحديد أهداف مالية واضحة لتجنب تراكم الديون. بالإضافة إلى ذلك يواجه السوق السعودي تحديات بسبب التقليد في الاستثمار حيث يتبع العديد من المستثمرين قرارات الآخرين دون تحليل مستقل مما قد يؤدي إلى انهيارات في الأسواق المالية. ولذلك من الضروري نشر الوعي المالي وتشجيع المستثمرين على تنويع محافظهم الاستثمارية لتقليل المخاطر وتعزيز الاستقرار المالي.
على سبيل المثال عروض الجمعة البيضاء التي تقدمها المتاجر والأسواق الإلكترونية مثل نون وأمازون السعودية تعتمد بشكل كبير على التحيزات المعرفية حيث يتم استخدام تأثير الإطار من خلال إظهار الأسعار السابقة والخصومات بطريقة توحي للمستهلك بأنه يحصل على صفقة رابحة مما يدفعه للشراء حتى لو لم يكن بحاجة فعلية للمنتج. كما يظهر تأثير الاقتصاد السلوكي في سلوك المستثمرين في سوق الأسهم السعودية (تداول ) حيث يميل العديد من المستثمرين إلى التقليد الأعمى للقرارات الاستثمارية بدلاً من إجراء تحليل مستقل مما قد يؤدي إلى فقاعات سوقية وانهيارات مالية.
فيما يتعلق بالادخار تُستخدم آليات الاقتصاد السلوكي لتحفيز السعوديين على التوفير والاستثمار مثل التسجيل التلقائي في برامج الادخار التقاعدي والذي يتم تطبيقه في بعض المؤسسات المالية لتشجيع الأفراد على تخصيص جزء من دخلهم تلقائياً دون الحاجة لاتخاذ قرار واعٍ في كل مرة مما يساعدهم على بناء ثرواتهم على المدى الطويل.
أما في قطاع التمويل الشخصي والقروض فقد بدأت بعض البنوك السعودية في إرسال إشعارات تذكيرية للعملاء بشأن مواعيد سداد القروض حيث أثبتت الدراسات السلوكية أن التذكير المنتظم يقلل من حالات التأخر في السداد مما يعزز الاستقرار المالي للفرد ويقلل من الديون غير الضرورية.
أخيرا يُعد الاقتصاد السلوكي أداة قوية في تحسين صنع القرارات المالية حيث يساعد الأفراد على اتخاذ قرارات أكثر وعياً بناءً على فهم العوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة على سلوكهم. في السعودية يمكن تطبيق مبادئ الاقتصاد السلوكي لدعم تحقيق أهداف رؤية 2030 من خلال تعزيز ثقافة الادخار وتقليل الديون وتشجيع الاستثمارات المستدامة. إن اتخاذ قرارات مالية مدروسة لا يفيد الأفراد فقط بل يسهم أيضاً في استقرار الاقتصاد الوطني وتحقيق نمو مالي مستدام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال