الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عصر التحول الرقمي الذي نشهده، أصبحت التقنيات الحديثة جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، تؤثر في تشكيل قناعاتنا تجاه العالم، ويقضي معظمنا وقتًا غير بسيط في عوالمها الرقمية. ومع بروز ثورة تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي التي أذهلتنا بسرعة تطورها، بدأت تفرض نفسها في عدة قطاعات كالإعلام والتعليم، والثقافة، والفن، وغيرها. ولكن وسط هذا الانبهار العالمي، تبرز تساؤلات جوهرية: ما تأثير هذه التقنية على هويتنا وثقافتنا الإسلامية؟ وهل توجد حلول يمكن أن تحدّ من التأثير السلبي لتلك التقنية؟
في يونيو ٢٠٢٢، أجرى المهندس في شركة جوجل، بليك ليموين، مقابلة مع إميلي تشانغ على برنامج “بلومبرغ تكنولوجي”، حيث ناقش تجاربه مع نموذج الذكاء الاصطناعي “لامدا”، وادّعى أنه أصبح واعيًا. أدّت هذه الادعاءات إلى فصله عن العمل من قبل شركة جوجل. ولكن ما أرغب في التركيز عليه هو ما ذكره خلال المقابلة، من أن النماذج الغربية للذكاء الاصطناعي التوليدي مثل “شات جي بي تي”و”جوجل جيميني” و”لامدا” وغيرها، يتم تدريبها غالبًا على مصادر تعكس القيم والتوجهات والرؤى الثقافية الغربية، التي لا تتماشى مع الثقافة العربية والإسلامية. لتقريب الفكرة، أشبّه هذه التقنية بالطفل؛ فالطفل لا يُولد بوعي، بل يكتسب إدراكه من البيئة التي يُربّى فيها. وكما أن الإنسان يُولد وتتدخل البيئة والنشأة في تشكيل عقله وقيمه، فإن نموذج الذكاء الاصطناعي يُولَد من خوارزمية محايدة، ثم تتبلور شخصيته المعرفية بالكامل من خلال البيانات التي يُغذّى بها. فإن نشأ على بيانات غربية، تبنّى منظورًا غربيًا؛ وإن غُذّي بمصادر عربية وإسلامية، وُلِدت منه معلومات تتماشى مع قيمنا ومنظورنا الإسلامي. لذلك فإن تبنّي تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي الغربي يشكّل خطرًا على ثقافتنا، خصوصًا في الجوانب الإنسانية والاجتماعية، نظرًا لأن الإجابات التي يتم توليدها للمستخدمين ليست منقّحة، بل تعكس النظرة الغربية لأسئلتهم. ومع انتشار استخدام هذه النماذج بين جميع شرائح المجتمع – كبارًا وصغارًا – قد تؤدي هذه الإجابات إلى انصهار الهوية والثقافة الإسلامية في الثقافة الغربية، وقد يتلقاها أفراد المجتمع العربي والإسلامي كمسلّمات.
سابقًا، كان للجهات التنظيمية ودور النشر دور كبير في تنقيح النصوص المستوردة من الغرب بما يتماشى مع السياق والهوية الإسلامية، لكن مع الانتشار السريع للتقنيات وتدفق المعلومات عبر الإنترنت بشكل كبير، أصبح من الصعب على الجهات التنظيمية وحدها مواكبة هذه التطورات وحوكمتها. لذا تقع مسؤولية كبرى على عاتق الشركات العربية والإسلامية التي تتبنى هذه التقنيات، في التأكد من أن المحتوى يتوافق مع الثقافة الإسلامية قبل دمجه في خدماتها. ويكمن الحل في تطوير نماذج لغوية عربية مدرّبة باستخدام مصادر موثوقة تتماشى مع القيم العربية والإسلامية. على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية، قامت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) بتطوير نموذج لغوي ضخم مفتوح المصدر باسم “علّام”، تم تغذيته بمصادر عربية موثوقة تتماشى مع السياق الثقافي والديني. إن إنشاء نموذج لغوي يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية التقنية، بالإضافة إلى جهود كبيرة في جمع البيانات وترتيبها ورفع جودتها وتدريب النموذج عليها.
وفي رأيي أن أحد الحلول الفعالة للحد من التأثيرات السلبية لهذه التقنية على هويتنا هو تبني نموذج “علّام” بشكل أوسع على المستوى الإقليمي، مع حوكمة ومراجعة مدخلاته ومخرجاته من قِبل لجان عربية وإسلامية تضم منظمات مثل مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية ورابطة العالم الإسلامي وغيرها لضمان تنقيح المحتوى الديني والثقافي بما يتناسب مع هويتنا ويحمي مستقبل مجتمعاتنا، في زمن أصبحت فيه التقنيات الرقمية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال