الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم يعيش على إيقاع التغيير، حيث تتشابك خيوط التكنولوجيا والعولمة كلوحة سريالية متلاطمة الألوان، يبرز التعليم والعمل كبطلي ملحمة اقتصادية لا تنتهي فصولها. لكن هذه ليست قصة خطية بسيطة، بل معادلة غامضة تحمل في طياتها أحجيات الماضي ورهانات المستقبل. إنها حياة دقيقة بين العقول المتعطشة للمعرفة وسوق عمل يتحول كالكائن الحي، بينما يتربص الاقتصاد في الخلفية كحكم صامت ينتظر النتائج. فكيف يمكن لهذه المعادلة الصعبة أن تتشكل وتتفكك وتعاد صياغتها في عصر يبدو فيه كل شيء ممكنًا ومستحيلاً في آن واحد؟.
تخيل معي للحظة: كل دولار يُنفق على التعليم هو بذرة تُزرع في تربة الاقتصاد، لكن هل كل بذرة تؤتي ثمارها؟ تقول الأرقام إن الدول التي تضخ أكثر من 6% من ناتجها المحلي الإجمالي في التعليم، كما تفعل فنلندا التي تصدرت مؤشر التعليم العالمي لعام 2024 بفضل نظامها الذي يمزج بين الإبداع والتطبيق العملي، تحصد عوائد اقتصادية تفوق 12% على المدى الطويل، وفقًا لدراسة حديثة من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). هذا ليس مجرد استثمار مالي، بل رهان على الخيال البشري. فنلندا، بأقل من 6 ملايين نسمة، تحولت إلى مركز تكنولوجي عالمي، حيث تنتج شركات مثل نوكيا وSupercell ابتكارات تغير قواعد اللعبة، بينما يبلغ معدل البطالة فيها 4.8% فقط في 2025، وفقًا لتقديرات يوروستات.
لكن دعنا ننتقل من الشمال الأوروبي البارد إلى قلب آسيا النابض. في الصين، التي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد عالمي بقيمة 19 تريليون دولار في 2024 حسب صندوق النقد الدولي، يروي التعليم قصة مختلفة. هناك، يتخرج 9 ملايين طالب سنويًا من الجامعات، لكن دراسة أجرتها جامعة تسينغهوا في 2024 تكشف أن 35% منهم يواجهون صعوبة في العثور على وظائف تتناسب مع طموحاتهم. لماذا؟ لأن النظام التعليمي، رغم ضخامته، لا يزال يركز على الإنتاج الضخم للخريجين بدلاً من صقل المهارات التي تطلبها صناعات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. هذا التناقض يرسم لوحة غريبة: اقتصاد عملاق ينمو بنسبة 5.5% سنويًا، لكنه يترك جيلاً من الشباب يتأرجح بين الأمل والإحباط.
الآن، دعنا نعبر المحيطات إلى أمريكا اللاتينية، حيث تضيف البرازيل لمسة أخرى إلى هذه اللوحة متعددة الأبعاد. في بلد يمتلك خامس أكبر عدد من السكان في العالم، ارتفعت نسبة الالتحاق بالتعليم العالي من 17% في 2005 إلى 38% في 2023، وفقًا للبنك الدولي. لكن معدل البطالة بين الشباب لا يزال عالقًا عند 18% في 2024، حسب معهد الإحصاء البرازيلي. السبب؟ فجوة مذهلة بين ما تُدرسه الجامعات وما تحتاجه سوق العمل. بينما تتجه البرازيل نحو أن تصبح رائدة في الطاقة الخضراء بحلول 2030، فإن أقل من 10% من المناهج الأكاديمية تشمل تدريبًا على المهارات البيئية، مما يترك الاقتصاد يعاني من نقص في الكفاءات رغم وفرة المواهب.
هذه القصص المتناقضة تدفعنا إلى التساؤل: هل التعليم مجرد أداة لملء الوظائف، أم أنه مشعل يضيء طريق الابتكار؟ تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2024 يقدم إجابة مثيرة: بحلول 2030، ستختفي 85 مليون وظيفة بسبب الأتمتة، لكن ستوجد 97 مليون وظيفة جديدة في مجالات مثل البرمجة، التصميم الرقمي، وإدارة التغير المناخي. هذا التحول ليس مجرد إحصائية، بل دعوة لإعادة تخيل التعليم. في رواندا، التي تُعد واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا بنسبة 8% سنويًا في 2024، يتم التركيز على التعليم الرقمي منذ المدرسة الابتدائية. نتيجة لذلك، أصبحت كيغالي مركزًا للشركات الناشئة التكنولوجية، حيث جذبت استثمارات بقيمة 2 مليار دولار في العام الماضي فقط، وفقًا لتقرير African Tech Startups.
لكن التكنولوجيا، تلك الساحرة ذات الوجهين، تحمل تحدياتها الخاصة. في الهند، التي تُعد موطنًا لأكثر من 1.5 مليار نسمة في 2025، أدى برنامج “Digital India” إلى زيادة الوصول إلى التعليم عبر الإنترنت بنسبة 300% منذ 2020، حسب وزارة التعليم الهندية. لكن دراسة أجرتها جامعة دلهي في 2024 تظهر أن 70% من الطلاب في المناطق الريفية لا يمتلكون أجهزة كافية أو اتصالاً مستقرًا بالإنترنت. هذا الانقسام الرقمي يعني أن التعليم قد يصبح حلمًا متاحًا للبعض وسرابًا للآخرين، مما يهدد بتوسيع فجوة الفرص في اقتصاد يعتمد بشكل متزايد على المهارات التقنية.
في هذا السياق، يبرز مفهوم “التعلم مدى الحياة” كنجمة قطبية في سماء هذه المعادلة. في اليابان، حيث يواجه المجتمع شيخوخة سكانية غير مسبوقة (30% فوق 65 عامًا في 2025 حسب مكتب الإحصاء الياباني)، يتم استثمار 3 مليارات دولار سنويًا في برامج إعادة تأهيل العمال الأكبر سنًا لتعلم مهارات مثل تحليل البيانات والروبوتات. النتيجة؟ اقتصاد يحافظ على إنتاجيته رغم انخفاض القوى العاملة الشابة، حيث يساهم كل عامل بمتوسط 85 ألف دولار في الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، وفقًا لبيانات 2024.
في الختام؛ المعادلة الصعبة بين التعليم والعمل والمستقبل الاقتصادي تشبه قصة غير مكتملة، تحتاج إلى مبدعين وجريء. إنها دعوة لنعيد تخيل المدارس كمختبرات للابتكار، والجامعات كجسور للمستقبل، وسوق العمل كلوحة يرسمها الجميع. قد تكون صعبة، لكنها ليست مستحيلة. ففي كل طالب يحمل كتابًا، وكل عامل يتعلم مهارة جديدة، تكمن قصة تضاف إلى هذا الإبداع، تقربنا خطوة نحو عالم يتحقق فيه التوازن بين العقل والعمل والازدهار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال