الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
“من المستحيل إدارة ما لا يمكن قياسه” عبارة شهيرة ذكرها عالم الإدارة الأمريكي بيتر دراكر (Peter Drucker) ، بمعنى أنه لا يمكن إدارة أي شيء بفاعلية، سواء كان وزنًا صحيًا مثاليًا أو سوقًا عقاريًا، دون قياسه بمؤشرات دقيقة وواضحة. والحقيقة أن ندرة الأبحاث والدراسات المتعلقة بالسوق العقاري السعودي هي دليل »صارخ» على أن هذا السوق لا يمكن قياسه أو دراسته بوضعيته الحالية، وبالتالي لا يمكن إدارته بكفاءة. بل إن الجهات التي تتعاقد مع كبرى الشركات الاستشارية الأجنبية، سواء بهدف الاستثمار أو صياغة السياسات المرتبطة بالسوق العقاري، تتفاجأ عادةً بنتائج دراسات لا تعكس الواقع وليس لها قيمة عملية حقيقية!
والدليل على ذلك، أنك حين تبحث في جوجل الباحث العلمي (Google Scholar)، عن الدراسات والأبحاث المنشورة حول علاقة السوق العقاري السعودي بالعوامل الاقتصادية، تجد ان العدد شبه -معدوم – وذلك مقارنةً بأكثر من عشرة آلاف نتيجة لدراسات وأبحاث تتناول العلاقة بين سوق الأسهم السعودي والمتغيرات الاقتصادية الأخرى، مثل أسعار النفط.
بالإضافة إلى ذلك، عند المقارنة بين هيئة السوق المالية السعودية والهيئة العامة للعقار، نجد أن لدى هيئة السوق المالية إدارة متخصصة في إعداد الأبحاث والدراسات العلمية والتطبيقية، مع برامج تعاون مشتركة مع الجامعات والمراكز البحثية. وتُعد هذه الإدارة – العمود الفقري – في عمليات تطوير السوق، وتعزيز كفاءته، وتحليل سلوكياته، ورصد مخاطره المحتملة لحماية المستثمرين، ودعم اتخاذ القرارات بناءً على نتائج تلك الأبحاث والتحليلات.
في المقابل، وعلى الرغم من الجهود والإنجازات التي حققتها الهيئة العامة للعقار، فإنه لا توجد لديها أبحاث متخصصة منشورة عن السوق العقاري. كما أن استراتيجيتها الشاملة لم تتطرق إلى هذا الجانب إطلاقًا! خصوصًا فيما يتعلق بالأولوية الأولى ضمن ركيزة تمكين واستدامة القطاع العقاري، وهي رفع مستوى شفافية السوق.
أين المشكلة؟
باختصار، المشكلة هي عدم وجود المتغير التابع (Dependent Variable) في السوق العقاري! ولتوضيح الفكرة أكثر، تخيّل سوق الأسهم السعودي دون وجود المؤشر العام (تاسي). عندما ترتفع أو تنخفض بعض القطاعات، سيكون من المستحيل تحديد »الاتجاه الحقيقي العام للسوق» بشكل واضح ودقيق، مما سيؤدي إلى إرباك المتداولين وخلق حيرة في اتخاذ القرارات (وهو ما يحدث بالفعل في السوق العقاري).
بمعنى آخر، ستجد مجموعة ترى أن السوق ارتفع بسبب أداء بعض القطاعات والأسهم (مثل المدن والأحياء في السوق العقاري)، بينما ترى مجموعة أخرى أن السوق انخفض استنادًا إلى قطاعات وأسهم أخرى انخفضت في نفس الفترة. في الحقيقة، إن سؤال ارتفاع أو انخفاض سوق الأسهم خلال الأسبوع أو السنة الماضية – محسوم – لدى الجميع، ولا يوجد نقاش أو حيرة في ذلك منذ اللحظات الأولى لإغلاق مؤشر (تاسي).
والآن، تخيل لو أن هيئة السوق المالية، بدلًا من بناء وصيانة مؤشر تاسي، قررت توجيه مواردها وجهودها لرصد ومتابعة تحليلات المتداولين التي نشأت أساسًا نتيجة غياب المتغير التابع (أي المؤشر)، وكأن تلك التحليلات هي سبب الإرباك!
عمليًا، سيتم استخدام «الاتجاه الحقيقي العام لأسعار العقارات» كمدخل – أساسي – في الاختبارات الإحصائية لدعم الأبحاث والدراسات، وعمليات التنبؤ والتخطيط، واتخاذ القرارات المستندة إلى الأدلة العلمية. فعلى سبيل المثال، لو أخبرتك أن أسعار الفائدة ارتفعت من 0.13% في عام 2015 إلى 2.16% في عام 2019، ثم سألت الجميع: هل ارتفع أم انخفض السوق العقاري السعودي خلال نفس الفترة؟ وما هي نسبة التغير في أسعار العقارات؟ سيكون من المستحيل على أي شخص الإجابة عن هذا السؤال في السوق السعودي! وما زال التحدي قائما!
في المقابل، لو قارنا ذلك بالسوق العقاري الأمريكي، أستطيع الآن الدخول إلى مؤشر كيس-شيلر لأسعار العقارات السكنية (Case-Shiller Home Price Indices) والإجابة عن هذا السؤال خلال دقيقة واحدة فقط!
لاحظ أنني ما زلت أحاول الإجابة عن أبسط سؤال، أو تحديد الخطوة الأولى لكشف هذه المناطق العمياء! ويمكنني طرح أسئلة مستقبلية أكثر «تعقيدًا»، وأعتقد أنه لن يتمكن أحد من الإجابة عنها بسهولة، مثل:
للإجابة عن هذه الأسئلة، لن تُفيدني معرفة متوسط سعر المتر اليوم في حي الملقا أو المهدية أو الاستعانة بخبير عقاري متمرس في الأنشطة العقارية من عشرات السنين. على العكس من ذلك، أحتاج إلى تحديد المتغير التابع (The Big Y) كمدخل أساسي لإجراء نماذج واختبارات إحصائية متقدمة. على سبيل المثال، في السوق العقاري الأمريكي يمكن اليوم استخدام تحليل الاستجابة للصدمات (Impulse Response Analysis) لمعرفة مدى استجابة أسعار العقارات السكنية لصدمات مالية مفاجئة، مثل التغيرات في أسعار الفائدة، وذلك بهدف فهم ديناميكية السوق وتفاعل المتغيرات المختلفة مع بعضها البعض في السوق العقاري السعودي.
أنا أشير إلى “صندوق أسود” يحتوي على أكثر من 15 عامًا من البيانات الخام والصفقات العقارية غير المستغلة، والتي تُنشر منذ عام 2009. والأهم من ذلك، أنه حتى إذا تم التعامل مع هذه المشكلة اليوم، وتم تحديد «الاتجاه الحقيقي العام لأسعار العقارات» بدقة وبشكل منهجي، فسنحتاج إلى فترة زمنية تتراوح بين 10 و20 عامًا لجمع بيانات جديدة مستقبلية تشكل حجم عينة كافيًا ذا دلالة إحصائية؛ تكون صالحة للاستخدام في الدراسات والأبحاث المستقبلية، وبما يتيح الاستغناء عن البيانات التاريخية التي لا تزال بحاجة إلى معالجة.
ومن هنا تتضح الأهمية العاجلة لفتح هذا الصندوق اليوم، خصوصًا في ظل التوجيهات المباركة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – بشأن القطاع العقاري في مدينة الرياض، والتي تهدف إلى تعزيز المعروض العقاري، وضبط الأسعار، بما يحقق الاستقرار والتوازن بين العرض والطلب في السوق العقاري، ويخدم مستهدفات برنامج الإسكان ضمن رؤية المملكة 2030.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال