الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
The Philosophical Dimensions of Accepting or Rejecting the Practice of Handicrafts in the Kingdom of Saudi Arabia
مقدمة
تشير العديد من المصادر الميدانية، والمقابلات التي أُجريت مع أصحاب الحرف والصناعات التقليدية في المملكة العربية السعودية، أو مع أولئك الذين ينحدرون من أسرٍ احترفت هذه المهن منذ بدايات القرن الرابع عشر الهجري وحتى منتصف القرن الخامس عشر، إلى أن هذه الحرف ليست مجرد ممارسات مهنية تهدف إلى كسب الرزق، بل إنها تمثّل جزءًا أصيلًا لا يتجزأ من التراث الثقافي العريق للمجتمع السعودي. فالحرف اليدوية تعبّر عن تاريخ طويل من التفاعل مع البيئة المحلية، وتكشف عن قدرة الإنسان على التكيّف والابتكار، كما تعكس منظومة من القيم الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي تراكمت عبر الأجيال. ولا تقتصر أهمية هذه الحرف على بعدها المادي فقط، بل تتجاوز ذلك لتكشف عن أبعاد فلسفية عميقة تتصل بالفطرة الإنسانية، والكرامة الشخصية، والانتماء إلى الجماعة، والتوازن بين العمل اليدوي والتأمل الفكري. ومن هذا المنطلق، يهدف هذا المقال إلى تناول سؤال فلسفي مركّب يتقصّى تلك الأبعاد، محاولًا استجلاء الأسباب التي تدفع الأفراد إلى قبول أو رفض الانخراط في الأعمال الحرفية التقليدية أو حتى الحديث عنها، وذلك من خلال تحليل هذه الظاهرة في ضوء النصوص الشرعية، وأقوال العلماء والمفكرين في ميادين علم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، ليُبرز كيف تتداخل العوامل الدينية والاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية في تشكيل المواقف تجاه الحِرَف اليدوية في المجتمع السعودي.
أولًا: البُعد الديني
حظي العمل اليدوي بتقدير كبير في المنظور الديني الإسلامي، حيث ارتبط بمقام الأنبياء وممارساتهم، ما منحه قيمة رمزية وروحية عالية. فقد كان نبي الله نوح عليه السلام نجارًا، كما ورد في قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا)، وكان داوود عليه السلام حدادًا، وقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم)، وقوله: (وألنا له الحديد)، ما يدل على أن الحِرَف كانت من وسائل الأنبياء في الكسب والعمل الشريف. كما حثّ الإسلام على طلب الرزق الحلال، واعتبر العمل اليدوي من أشرف طرق الكسب، حيث قال النبي محمد ﷺ: “ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده”. هذا التقدير الديني للعمل لا يقتصر على البُعد الفردي، بل يمتد ليؤثر في ضبط السلوك الاجتماعي وتعزيز القيم الاقتصادية، مما يعكس تداخل الدين مع الأبعاد الأخرى كالمجتمع والاقتصاد. ومع ذلك، برز في بعض المذاهب، كالمذهب المالكي، رأي يُشير إلى استقذار بعض الحِرَف، ويُفضّل الابتعاد عنها، لكونها – حسب بعض الفقهاء – مهنًا خُصّ بها العبيد، مما خلق جدلًا في النظرة الدينية لهذه المهن. ورغم هذا التباين، كان التزام الأجداد في القرن الماضي بالحرف يُعبّر عن فهم عميق لمبدأ “العمل عبادة”، فلم يكن مجرد استسلام للواقع تحت غطاء ديني، بل اندماجًا بين نية التعبد والاستجابة لضرورات الحياة. وقد كان بعض العلماء يمارسون الحِرَف البسيطة كالنجارة أو الخرازة أثناء انشغالهم بحفظ القرآن ومراجعته، في صورة تنسجم فيها العبادة مع الكسب. من هنا، يمكن القول إن الحرفة كانت، ولا تزال، وسيلة للرزق وواجبًا دينيًا في آنٍ واحد، يصعب الفصل بينهما، كما أنها تُعد وسيلة للتقرب إلى الله بتحقيق الكفاف والعفة، ووسيلة ضمنية لكسب رضا الوالدين الدينية والاجتماعية، خصوصًا في ظل تأكيد الإسلام على الكسب الحلال والاعتماد على النفس.
ثانيًا: البُعد الاجتماعي
تُعد ممارسة الحِرَف والصناعات التقليدية انعكاسًا لبنية المجتمع وأدواته في التنظيم والتصنيف، إذ قد تنطلق أحيانًا من حرية الإرادة، لكنها كثيرًا ما تكون استجابة خاضعة لقوانين البقاء التي تفرضها البيئة الاجتماعية والاقتصادية. ووفقًا لتحليل كارل ماركس، فإن العمل في المجتمعات التقليدية غالبًا ما يُمارس بدافع الضرورة لا من منطلق الاختيار الحر، مما يجعله وظيفة محكومة باعتبارات البقاء أكثر من كونه وسيلة للتعبير عن الذات. وينسجم هذا التحليل مع نماذج واقعية شهدها المجتمع النجدي، لا سيما في عهد الأمير حجيلان بن حمد، الذي مثّل مثالًا فريدًا في إدارة التوطين واحتواء الوافدين إلى مدينة بريدة. فقد نُقلت روايات تاريخية عن حرصه على تنظيم العلاقة بين المجتمع المحلي والقادمين الجدد، إذ كان يستقبلهم بسؤال مباشر: “ما سبب قدومكم إلى بريدة؟” فإن كان قصدهم مجرد العمل، أجابهم: “إن أهل بريدة أحق بأعمالها منكم”، ثم يُكرمهم ويمنحهم الضيافة ثلاثة أيام قبل أن يطلب منهم الرحيل. أما من عبّر عن رغبته في الانتماء للمدينة، فقد كان يُمنح أرضًا إن كان مزارعًا، أو دكانًا إن كان صاحب حرفة، أو يُؤمَن على تجارته دون مقابل. لقد مثّلت هذه السياسة نمطًا متقدمًا في فهم البنية الاجتماعية، إذ جمعت بين حماية مصالح أهل المدينة الأصليين وبين تعزيز التكافل والنمو السكاني والاقتصادي عبر إدماج الوافدين ضمن النسيج الاجتماعي والحضري لبريدة. ومثل هذا التوازن لم يكن مجرد إجراء إداري، بل تعبيرًا عن وعي ثقافي عميق بطبيعة المجتمع التقليدي، وحاجته إلى استدامة الروابط بين الاقتصاد والعمل، والانتماء والمواطنة، بما يجعل من الحرفة والعمل اليدوي ركيزة للاندماج الاجتماعي، لا مجرد وسيلة رزق معزولة. وتُورّث الحرفة عبر الأجيال بوصفها وسيلة لاستمرارية الهوية الثقافية والاجتماعية، إلا أن هذا الامتداد الزمني قد يتحول إلى أداة تُكرّس الأدوار الاجتماعية وتُقيّد الحراك، خاصة عندما تُفرض المهنة كواجب اجتماعي من خلال الأعراف السائدة أو التراتبية القبلية. في هذا السياق، تصبح الحِرَف وسيلة لإعادة إنتاج الفقر بدلًا من تجاوزه، حين تُربط بطبقات معينة وتُمنع عنها فرص التطوير أو الخروج من دوائرها. كما تُستخدم الصناعات التقليدية أحيانًا كأداة للضبط الاجتماعي، توظفها القيادات المحلية أو التجار أو أصحاب النفوذ لتثبيت الفوارق الطبقية، من خلال تحديد الأدوار المهنية بناءً على الانتماء الاجتماعي أو القبلي، مما يعزز استقرار الهياكل الاجتماعية القائمة على التراتب والتمايز.
ثالثًا: البُعد النفسي
تُعد الحِرَف اليدوية من منظور علم النفس أكثر من مجرد وسيلة للبقاء، فهي تمثل أداة فعّالة لتحقيق الذات وبناء التوازن النفسي. ويشير عالم النفس ميهالي روبرت إلى أن الانخراط في العمل اليدوي قد يخلق حالة يُطلق عليها “التدفق”، وهي حالة من التركيز العميق والانغماس الكامل في النشاط، مما يؤدي إلى ارتفاع الإنتاجية وتعزيز مشاعر الرضا والإنجاز. ويتقاطع هذا المعنى مع ما أكده الدكتور عبدالكريم بكار حين قال: “الإنسان لا يشعر بكرامته ولا يحسّ بقيمته إلا إذا شعر بأنه منتج، وأنه يملك القدرة على التأثير”، في إشارة واضحة إلى أن العمل اليدوي يسهم في ترسيخ تقدير الإنسان لذاته وتعزيز ثقته بنفسه. كما يُمكن تفسير ما يتمتع به الحرفيون من صبرٍ وجلَدٍ على أنه تكيّف نفسي مع التحديات اليومية، سواء بدافع إيماني داخلي أو استجابة لضغوط اجتماعية محيطة كالوالدين. ومن جهة أخرى، تسهم الحرفة في تعزيز الشعور بالانتماء للجماعة، إذ تُمارَس ضمن سياقات ثقافية وأعراف اجتماعية مشتركة، إلا أنها تتيح في الوقت ذاته مجالًا للتعبير الفردي والتميّز داخل المجتمع، ما يعكس توازنًا دقيقًا بين الحاجة إلى الانتماء والرغبة في تحقيق الذات.
أخيرًا: بين رفض الحداثة وتكامل الأدوار
تكشف الأبعاد المتعددة للحِرَف والصناعات التقليدية في المملكة العربية السعودية خلال القرن الرابع عشر الهجري أنها لم تكن مجرد وسائل لكسب الرزق، بل ظواهر إنسانية مركّبة تتداخل فيها الاعتبارات الدينية، والاجتماعية، والنفسية، في توازن دقيق بين الحفاظ على التراث والسعي نحو التقدّم، وبين الانتماء للجماعة وتحقيق الذات. ورغم ما تحمله هذه الحرف من قيمة حضارية ودلالات ثقافية عميقة، فقد شهدت العقود الأخيرة حالة من العزوف عنها، نتيجة نظرة دونية اكتسبها البعض، حيث امتنع الأبناء والأحفاد عن ذكر مهن آبائهم وأجدادهم، وعدّوها مصدرًا للخزي أو العار، متأثرين بمفاهيم طبقية وافدة. غير أن هذا الرفض لا يعكس موقفًا موضوعيًا، بل يُعبّر عن انقطاع عن التصور الإسلامي والفلسفي والحضاري المتكامل للبناء الاجتماعي، الذي يقوم على توزيع الأدوار وتكامل الوظائف بما يخدم مصالح الأمة. فالحاكم يُنظم شؤون الدولة، والعسكري يحفظ أمنها، والتاجر يُنشّط اقتصادها، والمزارع يُوفّر غذاءها، وفي هذا النسيج المتكامل، يبرز دور الحرفي بوصفه عنصرًا محوريًا في توفير الأدوات والوسائل التي تعتمد عليها باقي الفئات. وقد قال الله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض سُخريًا)، أي أن الناس مُسخّرون بعضهم لبعض في تبادل المنافع والخدمات، بما يُؤسس لمبدأ التكامل لا التنافر. وأكّد النبي ﷺ هذا المعنى بقوله: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا”، بينما أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن: “الصنائع من علامات رقيّ العمران، وإن احتقارها دليل على ضعف الدولة وتخلفها”، في تأكيد على أن الحرفة ليست مجرد ضرورة اقتصادية، بل ركيزة حضارية تسهم في صعود الأمم وازدهارها. وعليه، فإن التقليل من شأن الحرف اليدوية لا ينسجم مع البنية الفكرية التي تشكّلت عبر التاريخ في المجتمع السعودي، بل يُعد استلابًا ثقافيًا ناتجًا عن تأثر باتجاهات طبقية دخيلة تتعارض مع روح الإسلام، وتتنافى مع الهوية الوطنية الأصيلة في المملكة العربية السعودية.
المصادر والمراجع:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال