الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعد التعليم حجر الزاوية ومحور أساسي في التشييد وبناء الأمم والمجتمعات، وتجارب العالم شاهد على ذلك، فعصر النهضة الأوروبية الذي يمثل الانتقال من عصور الظلام نحو التنوير، كان أساسه الاهتمام بالمعارف والعلوم التي غابت دهراً طويلاً عن أوروبا، وعصر النهضة الياباني الذي ولد مع الإمبراطور المستنير ميجي (موتسو هيتو) كان هو عصر العناية بالعلوم والاهتمام بالمعرفة، فالتطور العلمي والتقدم الحضاري وجهان لعملة واحدة، ونحن عندما نهتم بتطور التعليم في سنغافورة أو في الدول الاسكندنافية نحاول تقمص هذه النماذج، فنحن في الحقيقة نحاول فصل ما هو متصل أصلاً في تلك المجتمعات، فتقدمها التنموي المشهود معرفياً بدأ في المدارس وانتهى في المعامل والمصانع والمدن الذكية والموانئ والمطارات وغيرها.
في عالم النهضة والتقدم، يقف العلم وتقف المعرفة مثل أعمدة شاهقة تضيء دروب المجتمعات نحو مستقبل أكثر إشراقاً، حيث يكتسب الأفراد المهارات والمعارف، التي تمكنهم من التفكير النقدي وحل المشكلات والابتكار؛ مما يؤدي إلى تكوين أفراد يمتلكون القدرة على تحقيق نهضة شاملة مستدامة، فالتعليم ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة فقط، بل هو أساس لتنمية الإنسان وتعزيز الجوانب المختلفة للحياة.
فالتعليم هو المؤسسة الاجتماعية الأولية التي يتلقى من خلالها أفراد المجتمع العلم ويتعلمون المهارات المختلفة، والقيم والأخلاقيات، والعادات والتقاليد المتأصلة في المجتمع والتي تعد جزءاً من ثقافتنا، فبالتعليم يستطيع أبناءنا تعلم الفرق بين ما هو صحيح وما هو خاطئ وتغيير واقعنا للأفضل.
يُعد التعليم الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع ككل، فهو الوسيلة الأولى والأهم لتنشئة جيل متسلح بالعلم قادر على رصد نقاط القوة والضعف في مجتمعه، يعمل على تعزيز الجيد منها، وتحسين المجالات التي تحتاج للتطوير، لذلك فدور التعليم في تطوير المجتمعات كبير جداً.
والمتأمل في واقع الأنظمة التعليمية سابقاً وحالياً يلاحظ أنها تقدم المعارف والعلوم المختلفة مجردة دون أن يكون لها توظيف في حياة الإنسان، وكأن الهدف فقط التركيز على الذكاء العقلي في تلقي أكبر قدر من المعلومات، مع إهمال الذكاء العاطفي الذي يوظف تلك المعارف للتعامل مع مواقف الحياة المختلفة، وكذلك فإن بناء الإنسان كشخصية متكاملة ينبغي أن يشمل جوانب الشخصية الإنسانية الفكرية والروحية والوجدانية والجسدية، وكذلك تعتمد الأنظمة التعليمية على أساليب ومناهج تقليدية في تلقي المعرفة بدلاً من الفهم النقدي والإبداعي، وهذا يؤدي إلى تخريج أجيال غير قادرة على التفكير النقدي أو حل المشكلات بفعالية أو الرشد في اتخاذ القرارات والتكيف مع الحياة.
ولتطوير عمليات ونتائج الأنظمة التعليمية وما تقدمه من معارف وعلوم، نحتاج لتصميم نموذج معرفي يعمل على تحقيق الغاية والهدف الرئيس من النظام التعليمي هو إنسان واعي متمكن من المعرفة نظرياً وتطبيقياً، قادر على التكيف مع الحياة ومواقفها المختلفة، يسهم في التنمية الشاملة لوطنه، يصبح لديه بوصلة تحدد اتجاهه الصحيح والسليم في حياته.
هذا النموذج هو التعليم القائم على الرُشد، ويتطلب ذلك أولاً أن نحدد مفهوم الرُشد من القرآن الكريم فهو المصدر الأفضل الذي يعطينا إطاراً مفاهيمياً للرُشد، ثم ننتقل لأهميته وفوائد تطبيقه في النظام التعليمي، والمبادئ التي يرتكز عليها، وكيفية تطبيقه في مجال التعليم.
مفهوم الرُشد:
جاء الرشد في القرآن على خمسة معان فصلتها آياته، وهذه المعان هي:
قال تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة / 186].
قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا) [البقرة 256].
قال تعال: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف 10 ].
وكذلك في السور التالي: سورة الجن [2 ، 10 ، 14]، الكهف [24]، والأنبياء [51].
قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء / 6].
قال تعالى: (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)[الأعراف / 146] والمقصود هنا بسبيل الرشد طريق الصلاح.
قال تعالى: (قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف/ 51].
قال تعالى: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) [الجن / 21].
الإطار العام لمفهوم الرشد:
الإطار العام الذي يحده مفهوم الرشد لغويًا وقرآنيًا هو حدود الهدى والحق والصواب والصلاح والنفع والعلم والبلوغ العقلي وسلامة الوجدان، وهذه العناصر لازمة – بل مكون أساس – لشخصية الإنسان المستخلف، وتعكس حالة الحرية، والفطرة التي يولد عليها الإنسان.
الرشد في علم النفس والتربية:
اهتمت نظريات علم النفس والتربية الحديثة بمرحلة الرشد فيما يتعلق بالجانب العقلي، جانب نمو الإدراك والوعي للإنسان وتعرف بأنها ذروة الإنتاج الإنسان، وتتسم هذه المرحلة بالاستقرار والاستقلالية واتخاذ القرارات المهمة في حياة الفرد، كما أنها ترتبط بالنمو المتكامل في الجوانب الأخلاقية والصفات الاجتماعية والعقلية والفسيولوجية، وتكوين الهوية والقيم الرئيسة لحياة الإنسان.
وتمثل مرحلة الرشد نقلة مهمة في نمو الإنسان، سواء الجسمي أو الاجتماعي أو العقلي، وهذا الأخير هو أهم ما يميز مرحلة الرشد، وتوجد مقاييس مختلفة يقاس بها نضج الفرد وانتقاله من مرحلة الطفولة والمراهقة إلى مرحلة الرشد (النضج) والتي أهم ما يميزها هي النضج العقلي، والقدرات الرئيسية الأربعة لهذه المرحلة والتي تكون أكثر نضجا في مرحلة الرشد المبكر هي:
1 – القدرة على إدراك تفسيرات عديدة لنفس الظاهرة أو حلولا عديدة لمشكلة واحدة.
2 – القدرة على التعامل مع احتمالات تناقض الواقع والمواقف المتصورة.
3 – القدرة على التعامل بالرموز والمفاهيم المجردة كما في الرياضيات.
4 – القدرة على استخدام الاستعارة والرموز.
كما أنها تعكس حالة السعي والجهد الذي يبذله الإنسان المستخلف، وهي حالة المجاهدة الذاتية الداخلية، والعوامل الخارجية (العوائق المادية والفكرية) التي تحول دون وصول الإنسان إلى الهدى والحق أو تحرف مساره بدعاو متعددة.
وتتضح أوجه التلاقي بين مؤشر الجانب العقلي لمرحلة الرشد بحسب -بحوث علم النفس- والمعنى القرآني الذي يقيم مرحلة الرشد بحسب القدرة على التصرف في المال، وسداد الرأي في أمور الحياة، والتي تتطلب بدورها نمو القدرات العقلية لدى الفرد ليتحقق النضج المناسب في السلوك الإنساني.
المبادئ والقيم الأساسية التي تحكم بناء مفهوم الرشد:
مفهوم التعليم القائم على الرُشد:
يقصد به إكساب المتعلم المعارف والمهارات والاتجاهات في الموضوعات والمجالات المختلفة وطرق تطبيقها وتوظيفها في جوانب الحياة المختلفة بحيث يستطيع المتعلم التكيف مع الحياة واتخاذ القرارات بحكمة ورشد، وباستخدام أدوات ووسائل تعليمية تناسب كل متعلم وفقاً لخصائصه النفسية والفكرية والروحية، ويرتكز على المشاركة في عمليات التعليم والتعلم، وتحقيق الاستقلالية والمسؤولية في اكتساب العلم.
أهمية التعليم القائم على الرُشد:
إن اكتساب المعرفة والعلم وسيلة من أجل تحقيق غاية وهي تطبيق وتوظيف تلك المعرفة وذلك العلم في إدارة شؤون الحياة المختلفة، فثمرة العلم تطبيقه والاستفادة منه، وبالتالي فإن أهمية التعليم القائم على الرُشد تكمن في العناصر التالية:
أهداف التعليم القائم على الرُشد:
للتعليم القائم على الرُشد عدداً من الأهداف من أهمها:
عن طريق الرُشد تقرب المسافات وتنال الغايات والرغبات وتقضى الحاجات، وينال الإنسان السعادة والخير، ويتبع الطريق الأمثل لحياة طيبة مستقرة مفعمة بالإيمان، فالرُشد هو إصابة وجه الحقيقة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال