الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في لحظة رمزية لافتة، أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب” – في 24 فبراير 2025 – عن رغبته في زيارة “فورت نوكس”، حيث تحتفظ الولايات المتحدة بما يزيد على 8000 طنا من الذهب السيادي، حسب تقرير مجلس الذهب العالمي أواخر 2024، ولم تكن هذه الرغبة سياسية بالمعنى التقليدي، لكنها ملامسة لوتر الخوف من نظام مالي مفرط في الرمزية، ومجرد من الغطاء المادي.
ما يجعل هذه اللحظة أكثر من مجرد دعاية سياسية، هي أنها تحاكي في رمزيتها حدثا تاريخيا بالغ الدلالة، فحين حاولت بريطانيا مطلع القرن الماضي طمأنة الأسواق بربط الجنيه بالذهب، فإذا بها تسّرع من زوال هيمنتها، ففي عام 1931، تخلّت بريطانيا عن قاعدة الذهب بعد عودتها إليها بسعر غير واقعي، وقد كتب الاقتصادي “جون مينارد كينز” آنذاك أن الحكومة “ربطت عملتها بوزن رمزي لا يحتمله اقتصادها”، وكانت النتيجة زلزلة الثقة ثم انحسار النفوذ النقدي البريطاني.
زيارة “فورت نوكس” مثلها مثل العودة إلى قاعدة الذهب في 1925، قد تبدو محاولة لإعادة إحياء الثقة، لكنها تكشف في ماهيتها هشاشة تلك الثقة، فقد ارتفع سعر أونصة الذهب من 2,696 دولار في يوم تنصيبه إلى 2,936 دولار عند إعلانه نيته الزيارة، وبالتوازي مع تصاعد التوترات التجارية وتداعيات التعرفة الجمركية، واصل الذهب صعوده مقتربا من حاجز 3,400 دولار للأونصة، ليسجل زيادة تجاوزت 27% منذ بداية العام الحالي، ولم يرتفع الذهب لأنه معدن ثمين، بل لأن الورق يهتز، فالعالم لم يعد يثق باقتصاد يفقد صلته بالواقع الملموس.
الولايات المتحدة اليوم لا تحكم بالدولار كأداة مادية، بل بفكرة الثقة فيه، لكنها ثقة تتآكل، فبرغم احتفاظ وكالة “فيتش” في 2024 بتصنيف (AA+)، جاء تحذيرها من العجز المالي وعبء الدين كإنذار غير قابل للتجاهل، لا سيما بعد تجاوز الدين السيادي الأمريكي 36 تريليون دولار، وتحول أدوات التمويل الأمريكية من ملاذات آمنة إلى مواضع مساءلة، بسبب أن البنية المالية الأمريكية تبدو أشبه بكائن حي استنزف موارده الرمزية من الثقة، وكل منظومة تستهلك أكثر مما تحتمل بنيتها، تجد نفسها أمام لحظة تصحيح لا ترحم، فإما أن تعيد ترتيب أولوياتها، أو تتآكل تحت ضغط الأسواق وتحولات النظام الدولي.
كما أن صبر الأسواق لم يعد امتيازا أمريكيا، فقد رفعت روسيا احتياطياتها من الذهب في 2024 إلى أكثر من 217 مليار دولار، تعادل 34% من احتياطياتها من النقد الأجنبي، ومولت ذلك جزئيا ببيع سندات الخزانة الأمريكية، كما فعلت عام 2017 بشراء 224 طنا من الذهب في تحول استراتيجي نحو الأصول الصلبة.
أما الصين، فقد خفضت حيازتها من السندات الأمريكية بنحو 550 مليار دولار منذ 2011، لتبلغ في 2024 أدنى مستوياتها خلال 15 عامًا، وليواصل بنك الشعب الصيني تعزيز احتياطيات الذهب بوتيرة ثابتة منذ نهاية 2022، ضمن استراتيجية تنويع تعيد تعريف التوازنات النقدية بعيدا عن هيمنة الدولار، كما بلغ الطلب العالمي على الذهب مستوى تاريخيا عند 1045 طنا في 2024، مدفوعا بمشتريات البنوك المركزية، لا المضاربين.
النظام المالي العالمي القائم على الدولار لا يواجه أزمة سيولة طارئة، بل تحديا أعمق في شروط البقاء والاستمرار، فحين تصبح الرمزية المالية بديلا عن الغطاء المادي، وتزداد الفجوة بين الوعود والمؤشرات، تنشأ لحظة مراجعة لا تُبنى على الرمز بل على الثقة القابلة للقياس، وارتفاع الذهب اليوم لا يعكس رغبة في المعدن بقدر التعبير عن قلق متنام من الورق، ومع استمرار هذا التآكل في الثقة، قد لا يعود السؤال عن سعر الذهب، بل عن موضع الدولار في معادلة النظام النقدي العالمي المقبلة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال