الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
العالم كما لم يتخيله الأجداد: من العولمة إلى البحث عن بدائل رفاهية لم تكن تُصدّق
لو عدنا بالزمن ستين أو سبعين سنة، وأخبرنا أحد أجدادنا أن كل شخص سيعيش في مسكن مستقل، أو أن لكل فرد سيارته الخاصة، أو أن كل منزل سيحتوي على مكيف وثلاجة وتلفاز ذكي، لربما اعتبر ذلك ضربًا من الخيال.
ومع ذلك، أصبحت هذه التصورات اليوم واقعًا معاشًا، نمرّ عليه دون أن نستشعر كم هو “استثنائي” إلا إذا أعدنا التفكير في خط الزمن.
هذه الوفرة لم تكن صدفة، بل جاءت نتيجة مباشرة للعولمة وتوسع الاقتصاد العالمي وتكامل الأسواق، ما جعل من الرفاهية الفردية أمرًا مألوفًا للجميع.
لكن هذا النموذج العالمي الذي صنع رفاهية لم يعرفها التاريخ، بدأ يتعرض لهزّات متكررة آخرها جاء مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية شاملة، مما أعاد الجدل حول مستقبل العولمة إلى الواجهة من جديد.
جذور العولمة والمؤسسات المؤسسة لها
العولمة كنظام اقتصادي عالمي بدأت تتبلور بوضوح بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها تسارعت مع نشأة اتفاقية الجات (GATT) عام 1947، والتي كانت تمهيدًا لإنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 1995.
من بينها أيضًا محاولات تنسيق اقتصادي لم تُفعّل، مثل منظمة ITO (المنظمة الدولية للتجارة)، التي لم يتم التصديق عليها من قبل الولايات المتحدة، ما أفسح المجال لتأسيس إطار اقتصادي مؤقت تحوّل لاحقًا إلى الجات.
العولمة جعلت من الممكن أن تدخل بقالة صغيرة في قرية نائية، فتجد فيها منتجات من خمس قارات: تمورًا من السعودية، جبنًا من فرنسا، وشوكولاتة من سويسرا، بأسعار قد تكون أحيانًا أرخص من أسعار السلع المحلية.
ويعود السبب في ذلك إلى انتشار التصنيع منخفض التكلفة في دول مثل الصين، الهند، فيتنام، بنغلاديش، وغيرها، ثم إعادة تصدير هذه السلع من خلال سلاسل توريد معقدة ومدعومة بأنظمة لوجستية جبارة.
ضغط على الوظائف والدخول في الدول المتقدمة
لكن العولمة لم تأتِ دون ثمن.
من أبرز سلبياتها: انكماش الوظائف ذات الدخل المرتفع، خصوصًا في الدول المتقدمة. فمع سعي الشركات المستمر لخفض التكاليف، بدأت بنقل مصانعها ومراكز خدماتها إلى دول ذات أجور أقل وأنظمة بيئية وتشريعية أقل صرامة.
هذا التوجه حرم الكثير من العمال المهرة في الغرب من وظائفهم، أو أوقف نمو دخولهم على الأقل، بينما استمرت المنتجات تُصنّع في دول أرخص وتُباع بأسعار أقل، مما أدى إلى فجوة اجتماعية واقتصادية متنامية.
أسعار أرخص… لكن بمقابل
في المقابل، ومع أن الأسعار ترتفع اسميًا بسبب التضخم، إلا أن العولمة ساهمت في خفض التكلفة الحقيقية للعديد من السلع مقارنة بالدخل.
ففي السابق، كان امتلاك هاتف جوال يُعد ترفًا، أما اليوم، فبات بإمكان معظم الناس امتلاك هاتف ذكي متطور بسعر معقول، بفضل سلاسل الإمداد العالمية واعتماد الشركات على الإنتاج في دول منخفضة التكلفة.
ولا يقتصر ذلك على الهواتف، بل يشمل السيارات، الأجهزة المنزلية، الملابس، وحتى المواد الغذائية، أشياء كانت يومًا ما حكرًا على الأغنياء، أصبحت في متناول الجميع.
لكن هذا “الرفاه الاستهلاكي” خلق وهمًا بالتحسن؛ فالكثير من الناس يعيشون اليوم على دخول راكدة وسط وفرة من السلع الرخيصة.
بمعنى آخر: السلع أصبحت أرخص، لكن الحياة لم تصبح أسهل، لأن الوظائف الجيدة اختفت أو توقفت عن النمو.
وكما هو الحال مع أي نظام اقتصادي ضخم، فإن هذه الرفاهية جاءت على حساب شريحة من الوظائف وسبل المعيشة المستقرة في الدول ذات الكلفة الأعلى.
سياسة ترامب الجمركية: عودة إلى الحمائية
أعاد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 2 أبريل 2025 فرض تعريفات جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات مع رسوم أعلى على الصين (34%)، فيتنام (46%)، والاتحاد الأوروبي (20%)، الجدل العالمي حول العولمة إلى الواجهة من جديد.
وقد وصف ترامب هذا اليوم بـ “يوم التحرير” و”إعلان الاستقلال الاقتصادي”، معتبرًا أن الوقت قد حان لإنهاء الاعتماد المفرط على الخارج واستعادة السيطرة على الاقتصاد الأمريكي.
في المقابل، اعتبره كثير من المراقبين خطوة تصعيدية قد تفتح الباب أمام حرب تجارية عالمية جديدة.
ولتخفيف آثار العولمة، بدأت بعض الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة، باتباع سياسات حمائية وفرض تعريفات جمركية تهدف إلى حماية صناعاتها المحلية.
الرئيس دونالد ترامب تبنّى هذا التوجه بشكل علني، مدفوعًا بعوامل، من أبرزها العجز المزمن في الميزان التجاري الأمريكي، الذي تجاوز 800 مليار دولار سنويًا، إضافة إلى الدين العام المتضخم. وكان هدفه إعادة المصانع الأمريكية، حماية الوظائف، وتعديل الميزان التجاري.
فالولايات المتحدة تمثل أكبر سوق استهلاكي في العالم، ومع ذلك، تعتمد على التجارة الدولية في أكثر من 25% من وارداتها، مقارنة بـ 40% في الصين. وهذا يعكس مفارقة اقتصادية واضحة: فمن يستهلك هو من يملك النفوذ الحقيقي، لا من يُنتج فقط.
مع ذلك، لا يمكن الرهان المطلق على نجاح هذه السياسات، كما لا يمكن افتراض فشلها.
فهي أشبه بـعملية جراحية معقدة: قد تُعيد التوازن، أو تؤدي إلى مضاعفات أكبر. وما إذا كانت سياسات ترامب فعالة على المدى الطويل، فهو سؤال لا يزال مطروحًا دون إجابة قاطعة.
قلق داخلي: موقف جيروم بأول
أثارت هذه السياسات ردود فعل حتى من داخل المؤسسات الأمريكية نفسها.
فبعد يومين فقط من إعلان تعريفات ترامب الشاملة في أبريل 2025، صرّح جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، محذرًا من أن هذه الرسوم قد تؤدي إلى ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي، مشيرًا إلى أن نطاقها وتأثيرها أكبر مما كان متوقعًا.
في الوقت ذاته، كان الرئيس ترامب يضغط على باول للمطالبة بخفض أسعار الفائدة، لكن الأخير شدد على ضرورة التريث واتخاذ قرارات مبنية على البيانات، مؤكدًا أن المجلس ملتزم باستقرار الأسعار والتوظيف الكامل، ولن يتخذ قرارات متسرعة تحت الضغط السياسي.
من التاريخ: تعريفات حمائية تسببت في أزمات
مرّ العالم بعدة تجارب سابقة تُظهر أن السياسات الحمائية، وإن بدت مجدية على المدى القصير، قد تؤدي إلى نتائج عكسية على المدى الطويل.
من أبرز هذه الأمثلة، قانون Smoot-Hawley عام 1930، حينما فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على أكثر من 20 ألف سلعة، ما دفع العديد من الدول إلى الرد بالمثل، وأسهم في تعميق آثار الكساد الكبير.
وفي الستينات، فرضت أمريكا ما عُرف بـ “ضريبة الدجاج” (Chicken Tax)، كرد انتقامي على رسوم أوروبية على صادرات الدجاج الأمريكي. وردًا على ذلك، فرضت واشنطن ضريبة 25% على الشاحنات البيك أب المستوردة، وهي ضريبة لا تزال سارية حتى اليوم!
وفي العصر الحديث، شهدنا أزمة الصلب بين أمريكا والصين، حيث فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية لحماية صناعتها المحلية، وردّت الصين بفرض رسوم على فول الصويا الأمريكي، مما ألحق أضرارًا مباشرة بالمزارعين في ولايات أمريكية تعتمد على هذه الصادرات.
كل هذه التجارب تؤكد أن السياسات الحمائية قد تعالج اختلالات آنية، لكنها تخلق مشكلات أعمق إذا لم تُصمم وتُنفذ بحذر.
الأمن الغذائي في زمن الأزمات: درس من كورونا
جائحة كورونا فجّرت حقيقة قاسية: الاعتماد الكامل على العولمة قد يتحول إلى خطر على الأمن القومي.
فقد أوقفت دول كبرى تصدير القمح، الأرز، السكر، الدواجن، الأدوية، الكمامات، وحتى أجهزة التنفس، بهدف حماية احتياجاتها الداخلية. هذا الموقف كشف هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، وأجبر الدول على إعادة التفكير في أولوياتها.
المملكة العربية السعودية كانت من أوائل الدول التي التقطت هذه الرسالة، وأطلقت عبر الهيئة العامة للأمن الغذائي برامج توطين لعدد من السلع الأساسية، مثل الدواجن، بيض المائدة، والأعلاف، رغم تحديات البيئة وندرة المياه.
كما شجعت الدولة توطين صناعة الأدوية الحيوية، وعلى رأسها الإنسولين، وأدوية السكري، وأمراض القلب، والمناعة. وقد بلغ حجم الدعم الحكومي لقطاع الدواجن وحده أكثر من 17 مليار ريال سعودي.
ومع أن العولمة وفّرت وفرة غير مسبوقة في السلع، إلا أن الأحداث أثبتت أن الوفرة لا تساوي الأمان.
فالدول اليوم باتت تدرك أهمية أن تمتلك حدًا أدنى من الإنتاج المحلي في القطاعات الاستراتيجية، وعلى رأسها الغذاء والدواء.
فالرخاء الاستهلاكي يمكن استيراده، لكن الأمن لا يُشحن من الخارج.
الأمن الاقتصادي… وجه آخر من السيادة
لم تعد العولمة تُناقش كقضية اقتصادية فحسب، بل باتت تمسّ الأمن الوطني بشكل مباشر.
الرقائق الإلكترونية، الأدوية، المواد الغذائية، الطاقة، كلها تحولت إلى أدوات جيوسياسية، تُستخدم كسلاح في النزاعات، أو كورقة ضغط في الأزمات.
ولهذا، بدأت دول كبرى مثل الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، واليابان، في تبنّي استراتيجيات “إعادة التصنيع المحلي”، حتى لو كانت بتكاليف أعلى، بهدف تأمين الأساسيات وتقليل الاعتماد على الخارج.
لقد أصبح واضحًا أن الأمن الاقتصادي لا يقل أهمية عن الأمن العسكري ومن لا يُنتج على أرضه، لا يملك قراره بالكامل.
لا عودة كاملة… ولا انفصال كامل
رغم التحديات التي كشفتها العولمة، إلا أن العودة الكاملة إلى نموذج الاكتفاء الذاتي لم تعد خيارًا واقعيًا.
فالعالم اليوم مترابط بدرجة غير مسبوقة، وسلاسل التوريد أصبحت معقدة ومتشابكة إلى حد يستحيل معه أن تعتمد أي دولة على نفسها بالكامل.
خذ مثالًا: طائرة بوينغ 787 تتكوّن من أكثر من 2.3 مليون قطعة تُصنّع في أكثر من 50 دولة، ثم تُجمع في مصنع واحد.
هذا المثال وحده يختصر حقيقة الاقتصاد الحديث: لم يعد بالإمكان فصل الإنتاج عن العولمة؛ فمعظم ما نستخدمه اليوم من الهواتف إلى الطائرات، هو نتيجة لتعاون دولي، لا صناعة محلية بحتة.
لذلك، فإن البديل الواقعي ليس الانفصال عن العالم، بل إعادة توزيع الأدوار وتحقيق توازن مدروس بين الاعتماد والانكشاف، بين الانفتاح والسيادة.
وكما قال الاقتصادي الأمريكي توماس فريدمان:
“العالم بات مسطحًا، لم تعد المسافات تعني شيئًا في زمن العولمة.”
وهي عبارة تلخص واقعًا جديدًا علينا أن نفهمه، لا أن نهرب منه.
من العولمة المفتوحة إلى التكتلات الإقليمية
مع تراجع الثقة في نموذج السوق العالمي المفتوح، بدأت الدول تعيد حساباتها. فبدلًا من الاعتماد على شركاء بعيدين جغرافيًا وثقافيًا، أصبحت تميل نحو تكتلات إقليمية أقرب، تسهّل معها إدارة الأزمات وتنسيق المصالح.
هذه الاتفاقيات تُبنى على فكرة أن القرب الجغرافي والتقارب الثقافي يسهّلان التبادل ويقللان من المخاطر، خصوصًا في عالم مضطرب.
من أبرز الأمثلة:
هذه التكتلات تُبنى على قناعة مفادها أن القرب الجغرافي والتقارب الثقافي لا يسهلان التبادل فقط، بل يُقلّلان من التوترات ويزيدان من الاستقرار وهي عناصر أصبحت نادرة في عالم مضطرب تتغير فيه التحالفات والمصالح بسرعة.
الختام: بين فوضى الأسواق وغموض المستقبل
لا أحد يملك إجابة حاسمة حول مستقبل العولمة لا السياسيون، ولا الاقتصاديون، ولا حتى الأسواق.
فالعالم يعيش اليوم حالة من التقلّب لم يشهدها منذ الكساد الكبير في الثلاثينات، حيث تؤدي الأزمات الجيوسياسية والصحية، والتقلبات في السياسات التجارية، كفرض الرسوم والتعريفات الجمركية، إلى حالة من الهلع في الأسواق العالمية.
ومع تزايد التوتر بين السعي نحو الحماية والانفتاح على العالم، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل نحن أمام إعادة تشكيل للعولمة بنسخة جديدة، أم بداية تفككها؟
المؤكد الوحيد أن ما اعتدنا عليه خلال العقود الماضية، لم يعد مضمونًا كما كان.
فالعالم لا يعود إلى الوراء، لكنه يعيد اختراع نفسه والعولمة ليست استثناء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال