الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة نحو الرقمنة وتسهيل الخدمات الحكومية، ينبغي أن تمثل تجربة المؤلف المحلي في فسح كتابه نموذجًا محفّزًا على الإبداع والابتكار. إلا أن الواقع يُظهر أن خدمة فسح الكتب والمطبوعات المحلية، رغم تحولها إلى منصة إلكترونية عبر بوابة الهيئة العامة لتنظيم الإعلام، لا تزال تعاني من تأخر ملحوظ ينعكس سلبًا على حركة التأليف والنشر، ويُثبط الحافز على إنتاج المحتوى المحلي.
فرغم تبنّي نموذج التقديم الرقمي، لا يزال الزمن اللازم لإتمام الخدمة طويلًا، وغير محدد المعايير الزمنية، وغالبًا ما يدخل الكتاب في حلقة مراجعة غير شفافة تشمل جهة حكومية أخرى لا يُتاح للمؤلف أو الناشر التواصل معها أو تتبع مسار الطلب لديها. وبدلًا من أن يُترجم التحول الرقمي إلى تحسين ملموس في الأداء، تحوّلت الخدمة الإلكترونية في بعض الحالات إلى واجهة تقنية تخفي خلفها تعقيدًا إجرائيًا لا يواكب طموحات التحول الرقمي.
ويبرز هذا التحدي بوضوح في المؤلفات القانونية، حيث تُحيل الهيئة العامة لتنظيم الإعلام هذه الكتب إلى وزارة العدل للمراجعة المضمونية، وفق آلية داخلية، رغم ما قد يُبررها من اعتبارات، إلا أنها تفتقر إلى الشفافية والوضوح الزمني، وغالبًا ما تمتد هذه المراجعة لأشهر دون إشعار أو تحديث، مما يُعطل إصدار الكتب القانونية، رغم ما لها من أهمية في دعم الثقافة الحقوقية، وتعزيز الوعي القانوني، ومواكبة التغيرات التشريعية المتسارعة. وهو ما يُفرغ التحول الرقمي من مضمونه، ويجعل الخدمة الإلكترونية قشرة إدارية تقليدية بثوب رقمي.
وتتجلى الإشكالية في اتساع الفجوة بين التوجهات المعلنة والممارسات الفعلية، مما يُضعف ثقة المؤلفين في كفاءة الخدمة ومصداقيتها. ففي حوار مع الإعلامي عبدالله المديفر، أكد معالي وزير الإعلام أن الوزارة تسعى إلى تطوير قطاع الإعلام وتعزيز بيئة العمل الإعلامي وتنظيمه بما يتماشى مع متغيرات المرحلة. وتناول اللقاء جملة من القضايا الجوهرية، من أبرزها حرية الإعلام، وتحسين جودة المحتوى، وتوفير بيئة إعلامية مسؤولة. ومع أهمية هذه التوجهات، إلا أن ما يجري في ملف فسح المطبوعات – وخصوصًا الكتب القانونية – يكشف عن فجوة تنظيمية تستوجب معالجة جادة وشاملة.
وتزداد الإشكالية حين نعلم أن بعض دور النشر المحلية باتت تلجأ إلى فسح الكتب من دول مجاورة تتسم إجراءاتها بالوضوح والسرعة، ثم تُدخل هذه الكتب إلى السوق السعودي بشكل نظامي، في حين يبقى المؤلف المحلي منتظرًا لأسابيع وربما أشهر للحصول على نفس الفسح من الجهة المحلية. هذه المفارقة تطرح تساؤلات جوهرية عن فاعلية النظام الحالي، وتكشف عن خلل في المنظومة يفترض أن يُعالج بسرعة.
كما أن استمرار هذا التعثر التنظيمي لا ينسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 التي تؤكد على بناء اقتصاد معرفي قائم على الإبداع، ودعم المحتوى المحلي، وزيادة مساهمة الصناعات الثقافية في الناتج المحلي، وخاصة المحتوى القانوني الذي يُعد من ركائز رفع الوعي وتحقيق مستهدفات التحول التشريعي. ومن غير المنطقي أن يتحمس المؤلف لتوثيق معرفته وإثراء الساحة الفكرية، ثم يُواجه بتأخير غير مبرر يبدّد جهوده، ويثبط رغبته في تكرار التجربة.
وتُثبت التجارب الدولية أن تنظيم خدمة فسح الكتب قد يكون أكثر مرونة وفاعلية متى ما اقترن بآليات واضحة. ففي المملكة المتحدة وكندا، لا يُشترط الحصول على فسح مسبق للنشر، بل تُراقب المحتويات ضمن إطار قانوني واضح بعد النشر. وفي الإمارات، تم تطوير منصة فسح إلكترونية تتيح تقديم الطلب ومتابعته بوضوح، مع التزام زمني لا يتجاوز أسبوعين في العادة، إلى جانب وجود وحدة مخصصة للتواصل والاستفسار. وتؤكد هذه النماذج أن الرقابة يمكن أن تكون مسؤولة وفعالة متى ما ارتبطت بآليات شفافة، ومهل زمنية محددة، ومفاهيم حديثة للحوكمة الإعلامية.
وفي بعض الأنواع، كالمؤلفات الفكرية والأدبية، قد يكون من الأنسب تبنّي نموذج الرقابة اللاحقة، الذي يتيح النشر الفوري مع الإبقاء على حق المساءلة القانونية عند الاقتضاء، كما هو معمول به في العديد من الدول التي تنظم النشر ضمن أطر واضحة لا تُخل بحرية التعبير ولا بالصالح العام. فهذا النموذج لا يُلغي الرقابة، لكنه يُخفف من التعقيدات الإجرائية، ويُعيد التوازن بين سرعة النشر وجودة الضبط التنظيمي.
ومن هذا المنطلق، فإن تطوير خدمة فسح الكتب في المملكة لم يعد خيارًا، بل ضرورة تنظيمية وثقافية، تبدأ بإعادة تصميم الإجراءات لتكون أكثر كفاءة وشفافية، من خلال تحديد إطار زمني ملزم لإنهاء الطلبات لا يتجاوز 15 يومًا، وتمكين المؤلف من تتبع حالة الطلب والملاحظات عليه لحظة بلحظة، وتوفير وسيلة تواصل فعالة مع الجهة المراجعة مع توضيح أدوارها التنظيمية، وإتاحة آلية واضحة للتظلم أو الاعتراض في حال حدوث تأخير أو رفض غير مبرر، فضلًا عن إطلاق مؤشر معلن يُحدث دوريًا لقياس زمن الإنجاز وجودة الخدمة، بما يعزز الثقة ويُحفز على تحسين الأداء ويُرسخ مبادئ الشفافية والمساءلة في تقديم هذه الخدمة الحيوية.
ختامًا، فإن إصلاح منظومة فسح المطبوعات لم يعد ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة ملحة لبناء بيئة ثقافية محفزة على التأليف والإنتاج المعرفي، ومتسقة مع طموحات المملكة في التحول إلى اقتصاد يقوم على المحتوى والإبداع. فالمؤلف المحلي لا يطلب أكثر من منظومة خدمية واضحة وعادلة، تحفظ جهده، وتحترم وقته، وتُسهم في تمكينه من التركيز على جودة المحتوى بدلاً من استنزاف طاقته في مواجهة عوائق إدارية غير مبررة. وإن تطوير هذه المنظومة، على أسس من الشفافية والكفاءة والمساءلة، هو ما سيعيد بناء الثقة، ويعزز صناعة النشر، ويجعل من التحول الرقمي واقعًا منتجًا لا مجرّد واجهة تقنية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال