الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع تنامي الاعتماد العالمي على الأصول غير الملموسة، وتزايد دور الملكية الفكرية في دعم الناتج المحلي للدول المتقدمة، تسعى المملكة العربية السعودية إلى بناء منظومة قانونية متكاملة تستوعب متغيرات العصر، وتدعم الاقتصاد الرقمي، وتعزز من قدرات الابتكار وجاذبية الاستثمار. ويُعد مشروع نظام الملكية الفكرية من أبرز هذه الخطوات، إذ يسعى إلى توحيد التشريعات المتناثرة في مجالات حقوق المؤلف، وبراءات الاختراع، والنماذج الصناعية، والعلامات التجارية، ضمن إطار قانوني موحد يعكس تطور النظرة الاستراتيجية إلى هذه الحقوق بوصفها أصولًا اقتصادية وركيزة من ركائز النمو والتنمية المستدامة.
لقد شهدت المملكة خلال السنوات الماضية صدور أنظمة نوعية في مجال الملكية الفكرية، مثل نظام حماية حقوق المؤلف، ونظام براءات الاختراع والتصميمات التخطيطية للدارات المتكاملة والأصناف النباتية والنماذج الصناعية، ونظام العلامات التجارية، وغيرها من التشريعات. ورغم أهمية هذه الأنظمة، إلا أن تباين مصادرها، وتعدد جهات الاختصاص، واختلاف الإجراءات، خلق فجوات قانونية أثّرت في مستوى الحماية وكفاءة الإنفاذ وسرعة الفصل في المنازعات. ومن هنا، تبرز أهمية مشروع نظام الملكية الفكرية بوصفه تحولًا تشريعيًا نوعيًا يعيد هيكلة منظومة الملكية الفكرية برؤية موحدة، ويُسهم في خلق بيئة قانونية جاذبة للمستثمرين المحليين والدوليين.
ويمثل تأسيس الهيئة السعودية للملكية الفكرية بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (496) وتاريخ 14/09/1439هـ، عاملًا محوريًا في مسار تطوير المنظومة الوطنية للملكية الفكرية، حيث خُوّلت بموجب تنظيمها صلاحية مراجعة الأنظمة ذات الصلة واقتراح تطويرها بما يتماشى مع أفضل الممارسات، إلى جانب مهامها في التسجيل والإنفاذ ونشر الوعي. وتأتي مبادرتها بإعداد مشروع النظام الموحد استجابة مباشرة لهذا الدور، وتجسيدًا للتوجه نحو التكامل القانوني الذي يعزز كفاءة الحماية ويوفر بيئة قانونية محفزة للمبدعين والمستثمرين على حد سواء.
ولا يعني تطوير الأنظمة القائمة تجاوز المنجزات السابقة، بل يمثل نقلة من المعالجة القطاعية إلى مقاربة شمولية تتيح تنسيق المبادئ القانونية، وتوحيد المصطلحات والإجراءات، وتعزيز حماية الحقوق بطريقة أكثر كفاءة وعدالة. فالنظام الموحد، إذا ما صيغ برؤية تكاملية، سيكون قادرًا على سد الثغرات التي ظهرت خلال الأعوام الماضية، لا سيما في مجالات التحايل على حقوق النشر، واستغلال العلامات الشهيرة، وضعف التعويضات في قضايا براءات الاختراع، وهي أمور تشكل في مجموعها معوقات استثمارية حقيقية يجب تجاوزها لضمان الثقة في البيئة القانونية.
وفي هذا السياق، فإن من مقومات البيئة القانونية الجاذبة للمستثمرين، توافر الأطر التشريعية المتسقة التي تعزز الحماية وتقلل من المخاطر. وتزداد أهمية هذا المشروع مع توجه الاقتصاد السعودي نحو تعظيم مساهمة المعرفة، ودعم الابتكار، وتعزيز المحتوى المحلي، وتهيئة بنية تشريعية أكثر جاذبية لرؤوس الأموال الوطنية والأجنبية. فالملكية الفكرية لم تعد مجرد مفاهيم قانونية تقليدية، بل تحولت إلى ركيزة استراتيجية لأي اقتصاد طموح قائم على الإبداع، وأصبحت موردًا اقتصاديًا يُقاس ضمن الناتج المحلي، ويُسهم في تحسين ترتيب المملكة في مؤشرات التنافسية والابتكار، كما يسهم في توجيه قرارات المستثمرين والشركات التقنية بشأن اختيار وجهاتهم الاستثمارية.
وقد أظهرت دراسات اقتصادية عالمية أن كل دولار يُستثمر في حماية الملكية الفكرية يمكن أن يُولّد عوائد اقتصادية مضاعفة، مما يجعل البنية التشريعية عاملًا حاسمًا في قرارات التمويل والتمركز الاستثماري، ويحوّل النظام من مجرد أداة قانونية إلى رافعة اقتصادية.
ومن زاوية العدالة والاستقرار، فإن وجود نظام موحد للملكية الفكرية يعزز ثقة المبدعين والمخترعين والمستثمرين، ويضمن حماية حقوقهم في بيئة قانونية شفافة ومستقرة. كما يفتح الباب أمام تطوير قضاء متخصص مزود بالخبرات الفنية والقانونية، قادر على إصدار أحكام تتسم بالكفاءة والوضوح والسرعة، وهي من المتطلبات الأساسية لتقليل المخاطر القانونية والاستثمارية.
ويُتوقع من النظام الجديد أن يكون قائمًا على مبادئ مرنة تأخذ في الاعتبار التطورات الرقمية والتكنولوجية، وتحمي الابتكارات الحديثة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والبرمجيات، والمحتوى الرقمي، وتُعزز من حماية البيانات والمعرفة كأصول معنوية لا تقل أهمية عن الأصول المادية.
ومن الزوايا المهمة التي يعكسها مشروع النظام، قدرته على تحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة، خاصة في القطاعات التقنية والإبداعية. إذ يُعد وجود إطار قانوني موحّد وواضح لحماية الملكية الفكرية من أهم مؤشرات ثقة المستثمرين بجاذبية البيئة الاستثمارية، لا سيما في القطاعات القائمة على الابتكار مثل الذكاء الاصطناعي، والبلوك تشين، والتكنولوجيا الحيوية، وصناعات المحتوى الرقمي. ويُسهم اعتماد هذا النظام في طمأنة المستثمر الأجنبي على حماية استثماراته الفكرية، وتمكينه من تسجيل حقوقه بسرعة وكفاءة، وتسوية المنازعات في إطار قضاء متخصص وفعّال، ويُقلل من المخاطر النظامية التي تُعد من أبرز التحديات أمام دخول رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة. كما يدعم هذا التوجه استراتيجية جذب الاستثمارات النوعية، وتوطين التقنيات، ونقل المعرفة، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030 في جعل المملكة مركزًا إقليميًا وعالميًا للتقنية والابتكار.
وفي خطوة تعكس التزام المملكة بمبدأ الشفافية ومشاركة العموم، تم نشر مشروع النظام على منصة “استطلاع” التابعة للمركز الوطني للتنافسية في 5 أبريل 2023م، لاستطلاع مرئيات الجهات ذات العلاقة. وقد تضمن المشروع ملامح رئيسة من أبرزها: توحيد الأطر التشريعية، وتوسيع نطاق الحماية لتشمل المصنفات الرقمية، ومنح الهيئة صلاحيات تنظيمية وتنفيذية، واعتماد وسائل تقنية حديثة في التسجيل والإثبات، مع ترسيخ مبادئ العدالة والشفافية، وهي ملامح تعكس وعيًا تشريعيًا بمتطلبات السوق والمستثمرين.
ومع مضي قرابة عامين على نشر المشروع دون إقراره، تبرز الحاجة الملحة إلى التعجيل في استكمال إجراءاته النظامية، لما لذلك من أثر مباشر في رفع جودة البيئة القانونية، وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 في مجالات الاقتصاد المعرفي، والصناعات الإبداعية، وحماية الابتكار والاستثمار. وقد يؤدي هذا التأخير إلى بقاء بعض أوجه الحماية القانونية في وضع جزئي أو غير مكتمل، مما قد يُضعف الثقة الاستثمارية ويُعيق تطور البيئة الابتكارية المستهدفة.
وفي هذا الإطار، تكتسب أهمية المشروع بعدًا إضافيًا عند النظر إلى أداء المملكة في المؤشرات الدولية ذات الصلة، حيث أحرزت المملكة المرتبة 16 عالميًا في تقرير التنافسية العالمية لعام 2024 الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD)، كما جاءت في المرتبة 47 عالميًا والثانية عربيًا في مؤشر الابتكار العالمي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO). ويُبرز هذا التقدّم نجاح الإصلاحات، وفي الوقت ذاته يؤكد الحاجة الماسّة إلى تحديث الأطر التشريعية الداعمة للابتكار، وعلى رأسها حماية حقوق الملكية الفكرية، للحفاظ على هذا التقدم وتعزيزه وتحويله إلى مكتسب استثماري مستدام.
ومن زاوية موازية، تبرز أهمية تطوير الأحكام المتعلقة بالحقوق المجاورة، مثل حقوق الفنانين والموسيقيين والممثلين ومنتجي التسجيلات، والتي تُعد من الأعمدة الأساسية للصناعات الإبداعية. فتعزيز حمايتها يسهم في تحفيز الإنتاج الفني والثقافي، ويدعم بيئة الابتكار، ويُشكل أرضية جاذبة للاستثمار في الصناعات الإبداعية، ويتماشى مع مستهدفات رؤية 2030، التي أولت اهتمامًا بالقطاع الثقافي من خلال مبادرات أطلقتها وزارة الثقافة وهيئاتها المختصة لبناء صناعة إبداعية مستدامة.
وقد انضمت المملكة إلى عدد من الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، مثل اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية، واتفاقية برن، واتفاقية تريبس (TRIPS)، وعضويتها في المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، مما يحمّلها التزامات تنظيمية وقانونية تستوجب تحديث تشريعاتها بما يتسق مع المعايير الدولية، خاصة في مجالات الحماية والإنفاذ وسرعة الإجراءات، وكلها عوامل تقيّمها المؤسسات الدولية ضمن مؤشرات بيئة الاستثمار.
كما أن الاستفادة من التجارب المقارنة في دول متقدمة كأمريكا وسنغافورة وسويسرا وكوريا الجنوبية وفرنسا، التي طوّرت أطرًا قانونية متقدمة وهيئات متخصصة وقضاء محترف في هذا المجال، يُسهم في تعزيز موثوقية النظام السعودي وتطوير بنيته الإجرائية، ويساعد في بناء نظام قادر على اجتذاب المستثمرين في القطاعات التقنية والإبداعية.
وانطلاقًا من ذلك، فإن تفعيل النظام يتطلب منظومة متكاملة تشمل: إنشاء محكمة متخصصة في منازعات الملكية الفكرية، وتحديث التشريعات المساندة، وإصدار لوائح تنفيذية مرنة، وإطلاق برامج تدريب متقدمة للقضاة والممارسين، وتفعيل الدور التنسيقي للهيئة، إلى جانب ربط الابتكار بسياسات التمويل والتسويق والحماية، وضمان بناء حلقة استثمارية متكاملة تبدأ من الحماية القانونية وتنتهي بالنمو التجاري والتوسع الإقليمي.
ختاماً، إن مشروع نظام الملكية الفكرية ليس مجرد تحديث تشريعي، بل هو تعبير عن التزام المملكة بتعزيز مكانتها كحاضنة للمعرفة والإبداع، ووجهة موثوقة للاستثمار. ومن هنا، فإن استكمال المسار التشريعي لهذا النظام، وإطلاق أدواته التنفيذية، سيكون بمثابة رسالة ثقة للعالم بأن المملكة ماضية بخطى واثقة نحو بناء اقتصاد معرفي تنافسي، يرتكز على الحماية الفاعلة، والتمكين الشامل، والريادة العالمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال