الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
طاولات ممتلئة، صوت الأكواب، أطباق تتنقل بين الطاولات، وأحاديث تتقاطع بين العائلات والأصدقاء.. مشهد بات مألوفًا في مدننا، ليس في عطلة نهاية الأسبوع فقط، بل في كل مساء تقريبًا. لم تعد زيارة المطاعم والكافيهات مجرد “تغيير جو”، بل أصبحت عادة يومية لكثير من الأسر والأفراد.
في البداية، كانت الزيارات للمطاعم مرتبطة بمناسبة أو رغبة في الخروج عن الروتين، لكن مع مرور الوقت، أصبحت هذه الأماكن امتدادا ليوميات الناس. الإفطار السريع قبل الدوام، والغداء العائلي، والعشاء في مقهى يعج بالضيوف، لم تعد لحظات عابرة، بل مشاهد يومية متكررة. هذا التحول في نمط العيش لا يعكس فقط تغيرًا في السلوك الاستهلاكي، بل يكشف عن ملامح ثقافة جديدة تتشكل بهدوء على طاولة كل مطعم أو كافيه.
لم يعد مستغربا أن يتوجه البعض تلقائيا إلى تجربة أي مطعم أو كافيه جديد بمجرد افتتاحه، وكأنها عادة اجتماعية لا تقبل التأجيل. بل إن كثيرًا من الزيارات باتت مزدوجة بطبيعتها: مطعم ثم كافيه، ضمن مسار معتاد لا يتغير. والزحمة لم تعد حكرًا على عطلة نهاية الأسبوع، بل تمتد حتى في أيام العمل، خصوصا في المساء، حيث تعج الكافيهات والمطاعم بالناس من مختلف الأعمار، في مشهد مألوف ومتكرر في مدن السعودية. ويبدو أن المطاعم تجاوزت دورها التقليدي كمكان لتناول الطعام، لتصبح امتدادًا للحياة الاجتماعية والعمل والأسرة. وهذا التوجه لا يقتصر على المدن الكبرى، بل يمتد إلى مختلف مناطق المملكة، في تعبير واضح عن تحوّل واسع النطاق.
المؤشرات الرقمية تؤكد عمق هذا التحول. خلال عام 2023، أنفق الفرد السعودي ما معدله 10,844 ريالًا على استهلاك السلع والخدمات، وكان نصيب المطاعم منها نحو 12%. وخلال عام 2024، سجلت عمليات نقاط البيع في المطاعم والمقاهي إنفاقًا تجاوز 96.5 مليار ريال، فيما بلغ إنفاق المستهلكين في فبراير 2025 وحده 8 مليارات ريال.
تعكس هذه الأرقام صعود قطاع يتمدد بثبات. فقد نما عدد المطاعم المسجلة في السعودية من نحو 108,000 مطعم في عام 2022 إلى أكثر من 137,000 مطعم في 2024، بنسبة نمو تجاوزت 26% خلال ثلاث سنوات فقط. وهو ما يجعل قطاع المطاعم والمقاهي أحد أبرز القطاعات التي تجاوزت آثار كوفيد-19 بسرعة لافتة، مقارنة بقطاعات أخرى ما تزال في طور التعافي. كما تجاوزت مساهمة هذا القطاع، إلى جانب الفنادق والتجزئة، نسبة 8% من الناتج المحلي.
هذا التحول لم يكن اقتصاديا فقط، بل امتد أثره إلى شكل الحياة الاجتماعية داخل الأسر. مائدة الطعام المنزلية التي كانت تجمع أفراد العائلة يوميا، أصبحت في كثير من البيوت مشهدًا مؤجلًا أو موسميا. فمع تكرار الاعتماد على المطاعم والكافيهات، تغيرت أنماط اللقاء الأسري، وتراجعت أدوار الطهي والمشاركة المنزلية، ليحل محلها حضور يومي في قوائم الطعام الجاهز وخيارات التوصيل السريع.
كل هذه المؤشرات تدفع للتأمل في سؤال محوري: هل نحن أمام ظاهرة صحية تعبر عن تنوع اقتصادي وجودة حياة متزايدة؟ أم أننا نغرق في نمط استهلاكي يتطلب وقفة تأمل؟
ختام القول..
يشهد قطاع المطاعم والكافيهات في السعودية نموًّا لافتًا يعكس تحولا في نمط الحياة وتوسعا في مفهوم جودة المعيشة. لم يعد تناول الطعام خارج المنزل مجرد خيار، بل أصبح مظهرا من مظاهر التحول الاجتماعي والاقتصادي. وبينما تسرد الأرقام قصة توسع وازدهار، يبقى التحدي الحقيقي في الموازنة بين متعة التجربة والوعي الاستهلاكي. فالمطاعم والكافيهات قد تكون انعكاسا لحراك صحي ومتطور، لكنها أيضا مرآة لعادات تتشكل وتترسخ، والسؤال الذي ينبغي أن نستحضره دائما: هل نحن من يصنع العادة.. أم أن العادة باتت تصنع أسلوب حياتنا؟
وربما ما هو قادم سيحمل تحوّلًا جديدا، حين يبدأ الناس بالتساؤل: هل تعني كثرة الخيارات أننا نختار الأفضل فعلا؟ أم أننا فقط ننجرف مع إيقاع حياة تعيد تشكيلنا كل يوم؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال