الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عودة “دونالد ترمب” إلى الرئاسة، لا تمثل مجرد انتقال للسلطة داخل الديمقراطية الأمريكية، بل تعبّر عن تحول عميق في البنية الذهنية التي تقود الاقتصاد السياسي للولايات المتحدة، فخطابه أمام الكونغرس في 4 مارس 2025 لم يكن خطاب ولاية، بل خطاب مشروع يرمي إلى إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية والتجارية للولايات المتحدة على قاعدة الانكفاء، وإعادة تعريف النظام الدولي كامتداد لأزمة المركز لا كمنصة لتوزيع المنافع.
أمريكا أولا، لم تعد شعارا سياسيا، بل تحولت إلى إطار سياسات اقتصادية ومالية وتجارية، يقوم على تحميل الخارج تكلفة إعادة تأهيل الداخل، ويتجلى ذلك في العودة إلى سياسات الحماية برفع الرسوم الجمركية، وهي إجراءات تستهدف بشكل مباشر إعادة هندسة الميزان التجاري، خاصة مع الصين التي تجاوز العجز معها 279 مليار دولار في عام 2023، وفق بيانات مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي (BEA)، وهذه الأدوات لم تعد تستهدف المنافسة، بل تحولت إلى عقيدة ردع اقتصادي، تفرض على الحلفاء والخصوم دفع ثمن التموضع في النظام الذي تديره “واشنطن”.
على صعيد الطاقة، يمضي “ترمب” بجدية إلى إعادة إحياء صناعات النفط والفحم، بوصفها مكونات استراتيجية للأمن القومي، وليس قطاعات اقتصادية محكومة باعتبارات السوق أو التحول الأخضر، وقد يترتب على هذا التوجه – أيضا – إلى إعادة هندسة أسواق الطاقة العالمية، سواء عبر رفع العقوبات عن دول مثل فنزويلا، أو تقويض الإجماع الدولي حول التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة، مما يفتح الباب أمام موجة جديدة من الاضطراب في موازين العرض والطلب والتسعير.
أما بخصوص العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، فهي لن تدور حول التوازن التجاري، بل ستمثل صراعا مركزيا على مستقبل الهيمنة الاقتصادية، إذ تسعى “واشنطن” إلى تطويق بكين عبر تقييد شركاتها التقنية، وتشديد الرقابة على الاستثمارات، وتحركات بحر الصين الجنوبي، وبالتالي يتحول التوتر من نزاع تجاري إلى اشتباك على البنية التحتية للنظام المالي العالمي.
وفي أوروبا، فإن تكرار خطابه العدائي تجاه “الناتو”، وتصريحه المتكرر باعتباره عبئا اقتصاديا، يُنذر بتفكيك تدريجي لآليات الضمان الأمني عبر الأطلسي، وقد يُجبر هذا الموقف الدول الأوروبية على إعادة صياغة بنيتها الدفاعية دون ضمانات أمريكية، وهو ما يخلق فراغا استراتيجيا قد تستثمره “موسكو” لتعزيز أوراقها الجيوسياسية، وهنا لا تعود الحرب في أوكرانيا مسألة حدود، بل تصبح نقطة اختبار لإرادة الغرب في تمويل الهيمنة.
وبالنسبة لسياسته تجاه آسيا والمحيط الهادئ، فهي مرشحة للتصعيد، خاصة على السيادة التقنية والمالية، وفيما يتعلق بتايوان، وسلاسل الإمداد، والتموضع في الأسواق الناشئة، وهذه البيئة غير المستقرة ستنعكس مباشرة على الأسواق المالية، والممرات البحرية، وخريطة الاستثمارات الدولية، مما سيجعل الشركات متعددة الجنسيات في هذه المنطقة في تحدي من قرارات جيوسياسية لا اقتصادية.
كما سيقوض “ترمب” الحاجة تدريجيا للمؤسسات الدولية القائمة على التعددية والحوكمة المشتركة، لنرى تسييس لقرارات اقراض صندوق النقد الدولي، واخضاع منظومة التجارة الدولية لقواعد سياسية وليس تنافسية، مما يجعل المنظمات الدولية شكلية ليس أكثر.
د.مشروع “ترمب” سيجعل النظام العالمي أمام مفترق طرق، فإما استمرار المركز الأمريكي عبر إعادة هندسة التجارة والضغط المالي، أو بروز نظام تعددي أكثر براغماتية تقوده القوى الصاعدة، وفي الحالتين لن يتعلق الأمر بمن ينتصر في الصراع، بل بمن يتمكن من تحمل كلفته البنيوية، فالنظام الدولي لا يعيد إنتاج نفسه بلا ثمن، بل يتشكل دوما عبر صدمات تتجاوز حسابات الربح والخسارة الظرفية، كما يشير “تشارلز كيندلبرغر” في تحليله لانهيار النظام المالي في ثلاثينيات القرن العشرين، حين أكد أن غياب مركز قادر على تحمل كلفة القيادة يُفضي إلى فوضى نظامية لا إلى توازن جديد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال