الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يكن ما يحدث في المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة مجرد تحسن اقتصادي عابر، بل هو تحوّل عميق في طريقة فهم الاقتصاد نفسه. في زمنٍ كانت تُقرأ فيه تقارير المملكة من خلال عدسة النفط، ومعدلات العائد، والاحتياطيات المالية، تغيّرت المعادلة. المملكة اليوم لم تعد فقط مصدّرًا للطاقة، بل أصبحت حاضنة لطموحات استثمارية تتجاوز حدود الجغرافيا، وتتحدى التقليد، وتعيد تعريف المفهوم الحقيقي للنمو.
وسط هذا التحول، لم يكن الاستثمار خيارًا تكميليًا، بل أصبح حجر الأساس في رؤية وطنية تُبنى على أعمدة ثلاثة: التنويع، الاستدامة، والحوكمة. من هنا، جاء التركيز على الاستثمار المباشر وغير المباشر كأداة لإعادة تشكيل الاقتصاد، وبناء نموذج إنتاجي مرن، لا يعتمد فقط على ما تملكه المملكة من موارد، بل على ما تصنعه من فرص.
في مطلع عام 2025، بدأت الأرقام تروي قصة هذا التحول بلغة أكثر وضوحًا. فقد بلغ صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الربع الأول من العام نحو 17.3 مليار ريال سعودي، مواصلًا الزخم التصاعدي الذي بدأ في الربع الرابع من 2024، حين وصلت التدفقات إلى 21.9 مليار ريال، وهو أعلى رقم فصلي خلال ذلك العام. ورغم أن إجمالي تدفقات 2024 توقّف عند 59 مليار ريال، منخفضًا عن 106.3 مليار في 2023، إلا أن الاتجاه لم يكن انحدارًا، بل إعادة تموضع. فالعبرة لم تكن في الإجمال السنوي، بل في نمط الاسترداد وثقة المستثمر في أن التحولات البنيوية لم تكن مجرد شعارات، بل سياسات فعلية.
والأهم من كل ذلك، أن المملكة لم تكتفِ بالأداء، بل راجعت أدوات القياس ذاتها. حيث طوّرت نظامًا إحصائيًا حديثًا لاحتساب الاستثمار الأجنبي، يعكس شفافية أكبر وواقعية أدق، ويمنح المستثمرين العالميين مؤشرات حقيقية على استقرار السوق. كل ذلك في إطار هدف استراتيجي واضح: رفع مساهمة الاستثمار الأجنبي في الناتج المحلي إلى 5.7% بحلول 2030.
لكن قصة الاستثمار لا تُروى بالأرقام وحدها. ففي مارس 2025، جاءت إشادة وكالات التصنيف لتضيف بعدًا رمزيًا لهذا التحول. “ستاندرد آند بورز” رفعت التصنيف الائتماني للمملكة إلى +A مع نظرة مستقبلية مستقرة، وموديز ثبتت تصنيفها عند A1 مستندة إلى قوة الأصول السيادية، بينما ربطت “فيتش” التصنيف بانخفاض البطالة وارتفاع مشاركة المرأة. لم تكن هذه التقييمات مجاملات مؤسسية، بل شهادات واقعية على أن الاقتصاد السعودي لم يعد اقتصاد موارد فقط، بل اقتصاد مجتمع يتغير، ومؤسسات تتجدد.
على الأرض، كان كل ذلك ينعكس في حركة السيولة التي تجاوزت 710 مليار دولار مع بداية 2025، والاستثمار غير المباشر الذي تخطى حاجز 2.79 تريليون ريال، مدفوعًا بثقة الأسواق في استقرار المملكة، وسياستها النقدية المرنة، وانفتاحها المؤسسي. القطاعات لم تعد تقليدية. الطاقة المتجددة، التقنية، السياحة، البنية التحتية الرقمية… كلها تحولت إلى ساحات جذب للاستثمار النوعي، تؤكد أن المملكة لم تعد فقط تواكب العالم، بل تسبق خطاه أحيانًا.
وفي المقابل، كانت بعض دول الجوار تعاني من نزيف في تدفق الاستثمارات، وسط اضطرابات سياسية أو تأخر في التحديث التشريعي. أما السعودية، فاختارت أن تكون لاعبًا إقليميًا بمقاييس عالمية. أنشأت هيئات موحدة، أصلحت أنظمتها القضائية، وسرّعت في فتح قطاعات جديدة أمام الملكية الأجنبية. حتى النظام القضائي التجاري أُعيد تصميمه ليخدم المستثمر، من خلال إنشاء محاكم تجارية متخصصة، وتفعيل آليات بديلة لحل النزاعات كمنصات التحكيم والوساطة.
ومن الجوانب التي تميزت بها التجربة السعودية كذلك، دخولها القوي إلى حوكمة الاستدامة. ففي فبراير 2025، أُطلق أول صندوق تداول لمؤشرات ESG في السوق المالية، مما عكس التزامًا واضحًا بإعادة تعريف الاستثمار من مجرد ربح إلى قيمة.
لكن الاستثمار، كما تعلّمنا من تجربتنا السعودية، ليس مشروعًا لحظة واحدة، بل مسيرة مستمرة تحتاج إلى مراجعة دائمة، وضبط إيقاع، وقرارات جريئة لا تكتفي بالمكاسب قصيرة الأجل. ومع كل ما تحقق، ما زال الطريق مفتوحًا أمام منظومة من الحلول التي يمكن أن تُحدث فارقًا نوعيًا في المرحلة القادمة.
من وجهة نظري من الضروري الآن التركيز على تخصيص المسارات الاستثمارية وفق طبيعة المستثمر. فالتعامل مع شركة ناشئة في الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يُقارب كما يُقارب صندوقًا سياديًا يستثمر في البنية التحتية. لكل منهما خصائص مختلفة، ومخاطر مختلفة، وتوقعات مختلفة. لذا، فإن تصميم “مسارات مرنة” تشمل متطلبات مبسطة، وامتيازات موجهة، وتسهيلات قانونية متخصصة، يمكن أن يجعل من التجربة الاستثمارية أكثر سلاسة وأقل احتكاكًا إداريًا.
وفي الوقت ذاته، تبرز الحاجة إلى مؤشر وطني لقياس جودة البيئة الاستثمارية، لا كمجرد أداة دعائية، بل كمرآة واقعية تُظهر أين تتعثر الإجراءات، وأين تحتاج الأنظمة إلى إصلاح. هذا المؤشر، إن ارتبط بزمن إصدار التراخيص، وعدد الخطوات الإجرائية، ومستوى رضا المستثمرين، سيكون من أهم أدوات التقييم الداخلي والتحسين المؤسسي.
أما على مستوى الحوافز الاستثمارية، فإن المملكة قد تخطو خطوة نوعية إذا ما ربطت هذه الحوافز بـ”التوطين النوعي”، وليس الكمي فقط. أي أن الحوافز لا تُمنح لمجرد وجود استثمار، بل عندما يخلق هذا الاستثمار قيمة حقيقية: وظائف مستدامة، نقل معرفة، مساهمة في سلاسل الإمداد المحلية، أو حتى إدخال تقنيات متقدمة تُعزز موقع المملكة في الاقتصاد الرقمي العالمي.
ومن أبرز النماذج الواعدة، فكرة المناطق الاقتصادية المستقلة بصلاحيات مرنة. مشاريع مثل “نيوم” و”ذا لاين” وغيرها، يمكن أن تُشكّل نماذج تنظيمية متقدمة تُجرّب فيها لوائح جديدة، وممارسات استثمارية مبتكرة، بعيدًا عن البيروقراطية التقليدية. وتُصبح هذه المناطق مختبرات حقيقية للسياسات الاستثمارية التي قد تُعمم لاحقًا على مستوى المملكة.
ومن زاوية التمويل المحلي، فإن إشراك الصناديق التقاعدية والشركات العائلية في مشاريع الخصخصة والاستثمار المباشر، هو توجه بالغ الأهمية. هذه الكيانات تمتلك رساميل ضخمة وخبرات طويلة، لكنها في كثير من الأحيان لا تجد القنوات المضمونة أو الحوافز الكافية للدخول بقوة. تقديم أدوات تمويل مرنة، وحوافز ضريبية، وآليات شراكة واضحة، يمكن أن يحوّل هذه الجهات إلى ركيزة تمويلية واستثمارية مستدامة.
كذلك، لا يمكن لأي بيئة استثمارية أن تُحقق الاستقرار دون نظام عدلي مرن وواضح. وهنا، فإن إنشاء منصة وطنية للتحكيم التجاري والاستثماري، تُسند إليها مهمة فض النزاعات بكفاءة وسرعة وشفافية، سيكون عامل طمأنينة حاسم للمستثمرين، ويُعزز من الثقة بسيادة القانون.
وفي عالم باتت فيه البيانات والعملات الرقمية والمنصات الذكية هي مفاتيح الثروة، فإن دمج ملف “الاقتصاد الرقمي” داخل السياسات الاستثمارية بات ضرورة لا ترفًا. فتمكين قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، مراكز البيانات، السيادة السحابية، والبلوك تشين، وفتح المجال للاستثمار فيها، سيكون أحد أسرع المسارات لتعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق تفوق استراتيجي.
وأخيرًا، فإن الرؤية لا تكتمل دون نظرة عالمية تُصدّر التجربة. وهنا، يبرز اقتراح إنشاء مركز دولي في الرياض لاستشراف الفرص الاستثمارية في الأسواق الناشئة، يقدم خدمات استشارية، معلومات سوقية، ويفتح قنوات تمويلية للدول النامية الباحثة عن نموذج تنموي قابل للنقل. وبهذا، لا تكتفي المملكة بجذب الاستثمار… بل تُصدّر فلسفة الاستثمار.
بهذه الأدوات والحلول، يمكن القول إن السعودية لا تكتفي برسم معادلة اقتصادية جديدة، بل تكتب وصفة لمن أراد أن يحوّل الاقتصاد إلى مشروع تنموي، وأن يجعل من رأس المال شريكًا لا في الأرباح فحسب، بل في بناء وطن.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال