الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يشهد الإطار التشريعي في المملكة العربية السعودية تطورًا محوريًا يعكس توجهًا وطنيًا نحو بناء منظومة قانونية أكثر كفاءة وعدالة، تسهم في ترسيخ ثقة المتقاضين في القضاء، وتعزيز مناخ قانوني محفز. ومن أبرز معالم هذا التحول، صدور نظام المعاملات المدنية، الذي يُعد نقلة نوعية في تنظيم العلاقات المدنية، ويمثل تحولًا تشريعيًا استراتيجيًا لإعادة صياغة العلاقة بين الحقوق والالتزامات على أسس حديثة وعادلة. ويأتي تنظيم أحكام التعويض ضمن هذا النظام ليعكس توجه السياسة التشريعية في المملكة نحو تحقيق التوازن القانوني، وتمكين المتضررين من استرداد حقوقهم بطريقة تكفل العدالة، وتدعم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في آنٍ معًا.
وبالنظر إلى ما تضمنه النظام من أحكام، تبرز أهمية التعويض العادل بوصفه حجر الزاوية في بناء الثقة بين أطراف العلاقة القانونية، وضمان حماية الحقوق الفردية والاقتصادية، وتعزيز جودة الحياة. ولا يقتصر دور التعويض على كونه وسيلة لتحقيق الإنصاف القضائي، بل يتجاوزه ليُسهم في معالجة الأبعاد النفسية والاجتماعية والمالية للضرر. كما يعكس هذا التنظيم الفلسفة الحديثة للقانون، بوصفه أداة فاعلة في صون كرامة الإنسان وتحسين واقعه، من خلال نصوص قابلة للتطبيق العملي تواكب احتياجات المجتمع وتسهم في ترسيخ العدالة على أرض الواقع.
وهذا ما يجعل من التعويض العادل محورًا تتقاطع عنده اعتبارات العدالة والاقتصاد وكرامة الإنسان. فمن منظور حقوقي، يُعد أداة لإعادة التمركز الحقوقي وضمان احترام المركز القانوني والمكانة الاجتماعية والاقتصادية للمتضرر. ومن منظور اقتصادي، تُعد كفاءة أحكام التعويض من أهم مؤشرات جودة البيئة القضائية وجاذبية الاستثمار، إذ تسهم في تقليل مخاطر التعاقد، وضمان سرعة تسوية النزاعات، وخفض كلفة التقاضي. ومن هنا، فإن القواعد الحاكمة للتعويض لا تؤدي وظيفة قانونية فحسب، بل تشكل ركيزة أساسية في استقرار العلاقات المالية والتجارية.
وترجمةً لهذه الأبعاد في الإطار النظامي، نصّت المادة (١٣٦) من النظام على أن «التعويض يكون بما يجبر الضرر كاملًا»، في تأكيد صريح على أن الغاية هي إعادة التوازن القانوني بشكل شامل. وأكدت المادة (١٣٧) شمول التعويض للخسارة الفعلية وما فات من كسب، بما ينسجم مع المبادئ الحديثة في الأنظمة المقارنة، كأن يتضمن التعويض مبلغًا يغطي الخسارة الناجمة عن توقف النشاط التجاري، إضافة إلى الأرباح التي فاتت المتضرر نتيجة ذلك التوقف.
ورغم صلابة البنية النظامية التي أرساها هذا التنظيم، تظل فعالية النصوص مرهونة بآليات التطبيق القضائي ومدى اتساقها مع الواقع العملي، لا سيما في ما يتعلق بالأضرار المعنوية أو غير المباشرة، التي يصعب إثباتها وتقديرها بدقة، وقد يترتب عليها تفاوت في نتائج الأحكام القضائية واهتزاز ثقة المتقاضين والمستثمرين على حد سواء.
ومن أبرز ما تضمّنه التنظيم القانوني للتعويض، المادة (١٣٨) التي وسّعت نطاق الحماية لتشمل الأضرار المعنوية كالسمعة والمركز الاجتماعي. وهذه الحماية لا تمثل فقط بعدًا إنسانيًا وحقوقيًا، بل تمتد إلى أثر اقتصادي مباشر، حيث تُعد السمعة التجارية أو الشخصية من أهم عناصر الكسب في السوق. إلا أن غياب أدوات فنية ومعايير موضوعية لتقدير هذا النوع من الضرر قد يُفرغ النص من مضمونه، ويحد من أثره في حماية الحقوق وتعزيز الإطار القضائي المستقر.
وإدراكًا لأهمية المرونة القضائية في حماية الحقوق والمراكز القانونية، منحت المواد (١٣٩) إلى (١٤١) القاضي سلطة تقديرية واسعة في اختيار وسائل التعويض، بما يتناسب مع طبيعة الضرر وظروف المدعى عليه والمتضرر، سواء كان التعويض نقدًا، أو عبر إعادة الحال إلى ما كان عليه، أو من خلال إيراد دوري أو أقساط. وتُعد هذه الوسائل مرنة وواقعية، خصوصًا في القضايا ذات الطابع المالي أو الاستثماري، إذ تتيح للقاضي مواءمة التعويض مع مصالح الأطراف، بما يحقق العدالة ويحمي الاستقرار الاقتصادي، دون أن يُهمل الأثر الإنساني والاجتماعي الناتج عن الضرر.
أما المادة (١٤٢)، فقد أحالت تقدير الأضرار الجسدية إلى أحكام الضمان الشرعية، وهي إحالة تستند إلى اجتهادات فقهية. وبإحالتها إلى الضمان الشرعي، تُبقي الباب مفتوحًا على اجتهادات فقهية قديمة لا تراعي تطورات الاقتصاد الحديث، مما قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى إغفال الآثار الاقتصادية الممتدة للضرر، كفقدان الدخل أو العجز الجزئي. ويزيد من تعقيد الأمر اعتماد بعض تلك الاجتهادات على معايير غير موضوعية، قد تُفضي إلى تفاوت في مقدار التعويض بحسب صفات المتضرر، كجنسه أو دينه، وهو ما يتعارض مع المبادئ الحديثة للعدالة المدنية، ويتنافى مع ما تسعى إليه المملكة في رؤيتها 2030 من تعزيز المساواة والحماية القانونية المتكافئة دون تمييز. لذا، فإن معالجة هذه الإشكالية تتطلب اجتهادًا مؤسسيًا يضمن تطبيقًا موحدًا ومتسقًا مع قواعد العدالة المدنية ومع مقاصد النظام الجديد.
وفي ظل سعي الأنظمة الحديثة إلى تحقيق اتساق قضائي وعدالة موضوعية، طورت عدة دول أدوات تنظيمية لتقدير التعويض. ففي الإمارات العربية المتحدة، طُبّقت آلية مرنة منحت القاضي سلطة تقديرية واسعة مدعومة بتقارير خبرة متخصصة، مع اعتماد جداول استرشادية غير ملزمة تقلّص تفاوت الأحكام. أما في فرنسا، فقد طوّرت المحاكم جداول دقيقة تراعي عناصر متعددة كنوع الإصابة والعمر وتأثيرها على الكسب، في حين تبنّت كندا مقاربة عملية تركّز على الأثر الفعلي للضرر في حياة المتضرر المهنية والشخصية، مما عزز من الشفافية، ورفع مستوى الثقة في القضاء، وخلق بيئة قانونية مشجعة على الاستثمار.
وانطلاقًا من ذلك، فإن تعزيز فعالية هذا الإطار يتطلب جملة من المبادرات المتكاملة، من أهمها: إعداد أدلة استرشادية وطنية قائمة على أسس علمية ومهنية تراعي طبيعة الضرر وأثره المالي والاجتماعي، وتفعيل دور الخبرة الفنية والاقتصادية في القضايا التي تمس الدخل أو السمعة أو القدرة على الكسب. ومن بين الأدوات المقترحة لتحقيق التوازن بين السلطة التقديرية للقاضي وضرورة الاتساق القضائي، إعداد دليل وطني يُحدث دوريًا لتقدير التعويض، مستلهم من التجارب المقارنة التي تبنت جداول مرجعية مرنة، إلى جانب إنشاء وحدة مستقلة في وزارة العدل تتولى تقديم تقارير محايدة في قضايا الضرر المالي والمعنوي، وتفعيل الاستعانة ببيانات الدخل السابقة للمتضرر كأداة موضوعية مرجعية عند احتساب الكسب الفائت، بما يعزز من شفافية الأحكام ويحد من تفاوتها. كما يُعد من الضروري الاستثمار في تأهيل القضاة والممارسين القانونيين من محامين وخبراء ومختصين، عبر برامج تدريبية متقدمة تُمكّنهم من الإلمام بأساليب التقييم المالي والنفسي والاجتماعي للأضرار، وتطوير أدواتهم في التعامل مع التعويض كوسيلة لتحقيق العدالة، لا كتعويض نمطي. ويُقترح أيضًا إدراج مقرر جامعي في كليات القانون والشريعة بعنوان “العدالة التعويضية وتقدير الضرر”، لإعداد جيل قانوني يتقن أدوات التقييم، ويتعامل مع الضرر كعنصر مركب اقتصاديًا واجتماعيًا وقانونيًا.
وفي هذا الإطار، تكتسب أهمية متجددة موافقة مجلس الشورى في جمادى الأولى من عام 1441هـ (يناير 2020م) على مقترح تشريعي مقدم من عدد من أعضائه لتعديل المادة (31) من نظام القضاء، بهدف تمكين الكفاءات القانونية من دخول السلك القضائي. ورغم مرور أكثر من خمس سنوات على هذا القرار، إلا أنه لم يُقر بعد، مما يعزز الحاجة إلى الإسراع في استكمال مراحله النظامية، لما له من أثر مباشر في تعزيز التخصص في القضاء، ورفع جودة الأحكام، وتفعيل نصوص نظام المعاملات المدنية بكفاءة واحترافية.
كما يُعد من المهم إعادة النظر في بعض الاجتهادات الفقهية التقليدية ذات الصلة بتقدير التعويض، لا سيما في حالات الأضرار الجسدية والمعنوية، بما يحقق المواءمة مع أحكام نظام المعاملات المدنية ويعزز اتساق الأحكام القضائية. فاستمرار الاعتماد على اجتهادات قديمة دون تطوير، قد يحدّ من فاعلية النصوص النظامية في جبر الضرر الكامل، ويُضعف من قدرتها على تحقيق العدالة الموضوعية التي ينشدها النظام.
ختامًا، فإن نظام المعاملات المدنية، بما أرساه من نصوص متقدمة لتنظيم أحكام التعويض، يُعد خطوة تشريعية نوعية تعكس نضجًا قانونيًا ورؤية وطنية تستهدف بناء بيئة عدلية أكثر عدالة وكفاءة. غير أن نجاح هذا النظام في إحداث الأثر المطلوب على المستويين القضائي والاقتصادي يتوقف على مدى تفعيل مواده بنهج واقعي مرن، يستند إلى أدوات علمية ومرجعيات موحدة، ويأخذ في الاعتبار طبيعة الأضرار وتنوع صورها، مع تطوير الاجتهادات الفقهية ذات الصلة بما يضمن انسجامها مع مقاصد النظام.
فالتعويض ليس مجرد استجابة قانونية لوقوع ضرر، بل هو تجسيد حيّ للعدالة المدنية، وأداة لإعادة التوازن في العلاقات القانونية، ومؤشر على مدى نضج المنظومة الحقوقية في حماية الإنسان ومصالحه. ومن هنا، فإن تطوير منظومة التعويض لا يتحقق بمجرد النصوص، بل يتطلب تكاملًا مؤسسيًا يُفعّل هذه النصوص من خلال تدريب القضاة والممارسين، وتحديث أدوات التقييم، وتبني سياسات قضائية تواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية، في إطار يُرسّخ سيادة القانون، ويجعل من العدالة ممارسة مؤسسية يومية، لا مجرد غاية منشودة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال