الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في قلب التحول الذي تشهده المملكة العربية السعودية من اقتصاد نفطي تقليدي إلى اقتصاد متنوع ومبني على المعرفة، يبرز مفهوم “التوطين النوعي” كعنصر حاسم في صياغة مستقبل تنموي متوازن ومستدام. فمع توسع القاعدة الاستثمارية وتدفق رؤوس الأموال، لم يعد التحدي في جذب المستثمرين فحسب، بل في تحويل الاستثمارات إلى أدوات لإنتاج القيمة المحلية الحقيقية.
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الاستثمار، فقد تم إصدار أكثر من 14,454 ترخيصًا استثماريًا جديدًا في عام 2024، مسجلًا نموًا بنسبة 67% عن العام السابق، ما يعكس بيئة أعمال جاذبة ومفتوحة. كما بلغ صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر نحو 59 مليار ريال خلال نفس العام، مقارنة بـ 106.3 مليار ريال في عام 2023. ورغم هذه الأرقام الإيجابية، إلا أن التحدي الحقيقي يتمثل في التحول من الكم إلى الأثر.
ففي القطاع الصناعي، مثلًا، بلغ عدد العاملين حتى نهاية الربع الأول من عام 2024 أكثر من 1.2 مليون عامل، من بينهم 358 ألف سعودي فقط، أي بنسبة توطين لم تتجاوز 29%. أما المحتوى المحلي في المشاريع الصناعية الجديدة، فقد استقر عند 46%، في حين لم تتجاوز نسبة التوطين في بعض المشاريع الأجنبية 24%. هذه الفجوة توضح أن كثيرًا من الاستثمارات لم تحقق بعد المردود التنموي المنشود.
ولهذا، أصبح من الضروري إعادة هندسة منظومة الحوافز الاستثمارية، لتنتقل من كونها دعمًا تأسيسيًا إلى كونها عقود أداء تنموي مشروط بأثر قابل للقياس. وهنا، تبرز أهمية تطوير مصفوفة حوافز مرنة تُربط بمعايير دقيقة مثل: نسبة التوطين التقني، عدد الكفاءات الوطنية المؤهلة، جودة الوظائف المستحدثة، الاعتماد على الموردين المحليين، والمساهمة في سلاسل الإمداد والتصدير، إلى جانب الالتزام بمعايير ESG (البيئية والاجتماعية والحوكمة). هذه المصفوفة تُدار عبر منصة رقمية موحدة ترتبط بأنظمة الجهات الحكومية كافة، ما يضمن التحديث اللحظي، والمساءلة الذكية، وعدالة توزيع الحوافز.
وفي هذا السياق، يجب التمييز بين الاستثمار المباشر الذي يُنشئ أصولًا إنتاجية داخل المملكة – كمصانع ومراكز لوجستية وتقنية – والاستثمار غير المباشر الذي يتم عبر الأسواق المالية مثل الأسهم والسندات. فكلا النوعين مهم، لكن التوطين النوعي لا يتحقق إلا عندما يرتبط الاستثمار — أيًا كان نوعه — بمؤشرات أثر محلية. لذا، يُقترح إنشاء مصفوفة حوافز مزدوجة تمنح الأفضلية للمشاريع التي تحقق توطينًا تقنيًا ومحتوى محليًا مرتفعًا في حالة الاستثمار المباشر، وتحفّز صناديق الاستثمار غير المباشر على دعم الاقتصاد الحقيقي وتمويل القطاعات الوطنية الواعدة، بما يربط رأس المال المالي بالقيمة التنموية الفعلية.
وإلى جانب ذلك، تُظهر تقارير وزارة الموارد البشرية فجوة واضحة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، رغم تطبيق نسب توطين إلزامية في عدة قطاعات. فعلى سبيل المثال، بلغت نسب التوطين في مهن إدارة المشاريع 35% و40%، وفي المشتريات 50%، وفي الهندسة 30%، مع اشتراطات دقيقة تتعلق بالأجور والاعتمادات المهنية. إلا أن جودة هذا التوطين، ومدى ارتباطه بالمهارات القابلة للنقل والإنتاج، تبقى موضع تساؤل.
ومن هذا المنطلق، يجب أن تُمنح المشاريع التي تُسهم في تأهيل الكفاءات الوطنية ونقل المعرفة امتيازات تنظيمية إضافية، تشمل الأولوية في التراخيص، ومرونة في الإجراءات، وحوافز مستدامة تتجاوز التمويل، باعتبارها شريكًا استراتيجيًا في تحقيق مستهدفات رؤية 2030.
ولا يمكن الحديث عن التوطين النوعي دون ربطه بـ العدالة الجغرافية. فلكل منطقة في المملكة ميزة تنافسية قابلة للتحول إلى رافعة استثمارية، متى ما تم ربطها بخريطة حوافز مخصصة. ففي المنطقة الشرقية، تتوافر الطاقة والبنية التحتية الصناعية المؤهلة لإطلاق مشروعات الهيدروجين الأخضر. وفي مكة والمدينة، تتجسد فرصة بناء اقتصاد وقفي رقمي متكامل يخدم السياحة الدينية. أما حائل والجوف، فهما مؤهلتان لريادة الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد الزراعية. بينما تقود نيوم وتبوك التحول في مجالات التقنية والابتكار والذكاء الاصطناعي.
وهنا، يُقترح تطوير منصة استثمار جغرافية ذكية، تُرفق بها خرائط الحوافز التفاضلية لكل منطقة بناء على مدى الأثر التنموي المتوقع، ودرجة دمج الموردين المحليين، وطبيعة التخصصات المُمكن توطينها.
كما يتطلب دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة دمجها ضمن برنامج حكومي تجريبي للعقود الابتكارية، خصوصًا تلك التي تطور حلولًا محلية أو تسهم في توطين التقنية. وعلى القطاع الخاص أن يُظهر التزامًا برفع نسب المحتوى المحلي، على أن يُربط ذلك بحوافز تمويلية وتصنيف تنافسي يُمنح فيه الأفضلية للمشاريع الأعلى أثرًا.
ولتفعيل منظومة التوطين النوعي على المدى الطويل، يجب دمج الجامعات السعودية مع المدن الصناعية في شراكات ملزمة لتوفير التدريب التعاوني، وربط التعليم بالصناعة، من خلال برنامج وطني مقترح تحت عنوان “من المختبر إلى المصنع”، يربط البحث التطبيقي بالإنتاج الفعلي.
أما مشاركة المرأة، فتُعد من أبرز مؤشرات نضج بيئة العمل. وقد بلغت نسبة النساء في سوق العمل 36.2% حتى الربع الثالث من عام 2024، بحسب الهيئة العامة للإحصاء. ويمكن تسريع هذه النسبة عبر تحفيز المشاريع التي تدمج النساء في القيادة التشغيلية، والتحول الرقمي، والحوكمة البيئية. كما يُقترح إنشاء “محفظة تمكين المرأة” لدعم المشاريع التي تتجاوز نسب التوطين النسائي المستهدفة في القطاعات ذات الأولوية.
ولضمان تنسيق الجهود، يُقترح تأسيس مجلس وطني للتوطين النوعي تحت مظلة المركز الوطني للقياس، يتولى الإشراف على تطوير “مؤشر التوطين بالأثر”، وهو مؤشر لا يكتفي بعدد الوظائف، بل يقيّم نوعية التخصصات، مدة بقاء الموظف، مساهمته في المحتوى المحلي، ونقله للمعرفة.
كما يمكن إنشاء سجل وطني للموردين المحليين المصنفين، بحيث تُمنح المشاريع التي تعتمد على موردين سعوديين بنسبة تفوق 50% نقاطًا إضافية في التقييم التنافسي، وتُحفز بامتيازات تمويلية وضريبية، ويُدرج هذا المعيار ضمن قواعد ترسية العقود الحكومية.
وفي المحصلة، لم يعد التوطين النوعي خيارًا إداريًا أو أداة اجتماعية، بل أصبح مقياسًا للسيادة الاقتصادية، ودليلًا على نضج منظومة الإنتاج الوطني. المملكة اليوم لا تقيّم الاستثمار فقط على أساس حجم رؤوس الأموال، بل من خلال:
كم فرصة نوعية خُلقت؟
كم معرفة نُقلت؟
وكم سلسلة إمداد محلية استُقرت ونمت؟
إن المستقبل لا يُبنى بتراكم التصاريح، بل بعمق الأثر، واستدامة المعرفة، وفعالية التمكين. ومن هنا، فإن رهان المملكة على التوطين النوعي ليس مجرد استجابة لحاجة آنية، بل هو إعادة هندسة شاملة للمفهوم الاستثماري نفسه… حيث تتحول الحوافز من مجرد تمويل، إلى أداة استراتيجية لإنتاج القيمة والتنمية المستدامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال