الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الدين الأمريكي لم يعد مجرد أداة تمويل، بل أصبح مرآة لخلل بنيوي في معادلة القيادة العالمية، حيث تتكئ القوة المهيمنة على العجز لا على الفائض، وعلى الاستدانة لا على الابتكار، ولم يتغير شيء منذ عقود سوى تكريس حقيقة أن “واشنطن” لا تحكم العالم بقوتها الاقتصادية، بل بعجزها الممول من الخارج، وعليه فإن رجوع “ترمب” إلى الرئاسة في 2025 لا يعد بداية لتحول جديد، بل إعادة تنشيط لمسار بنته الإدارات المتعاقبة، حين أُطلقت يد التمويل بالدين كحل دائم لا مؤقت.
تجاوز الدين العام الأمريكي في مارس 2025 حاجز 36.2 تريليون دولار، نتيجة بنية إنفاقية – تشكلت منذ السبعينيات – تقوم على التمويل بالدين لسد عجز لم يعد طارئا، بل مكونا أصيلا في النموذج المالي، وقد رسخت إدارة “ترمب” الأولى هذا المسار، بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق العسكري دون إصلاح ضريبي، مما أضاف أكثر من 8 تريليونات دولار إلى الدين، وفق مكتب الميزانية في الكونغرس، أما إدارة بايدن فرفعت السقف دون معالجة، فقفز الدين إلى أكثر من 31.4 تريليون خلال أقل من عامين.
وبالنظر إلى الحاجة الملحة لإعادة تمويل سندات خزانة تتعدى قيمتها 7 تريليونات دولار قبل نهاية عام 2026، وفي ظل بيئة اقتصادية تثقلها كلفة خدمة الدين، تلوح أمام صناع القرار الأمريكي خيارات غير تقليدية، أبرزها فرض تعريفات جمركية بهدف كبح النمو، ومن ثم خفض التضخم، وهو ما يؤدي إلى تراجع العوائد على السندات بما يكفل إعادة تمويل أرخص، ولاحقا يمكن العودة إلى أدوات التحفيز المالي قبيل الانتخابات المقبلة.
يمكن فهم توجه ترمب – في محاولته لتجديد مصادر التمويل خارج النظام القديم – بالرجوع لنظرية الاعتماد الدولي (فرانك، بريبيش، كاردوسو)، التي نجدها تصف النظام الرأسمالي العالمي بعلاقة غير متكافئة بين مركز مهيمن ماليا وتكنولوجيا، وأطراف تموله طوعا أو كرها، وقد استفادت الولايات المتحدة من هذه العلاقة لعقود، فمولت عجزها ببيع سنداتها للمدخرات العالمية.
لكن هذه المعادلة بدأت بالتآكل، بفعل ما يمكن تسميته بالتعب المؤسسي، حين تفقد الدولة أدوات الإصلاح وتكتفي بإعادة تدوير أزماتها داخليا وخارجيا، ويبدو هذا التعب جليا في انكماش الدور الأمريكي داخل المؤسسات متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، حيث تحول النفوذ الأمريكي من موقع البناء والتوجيه إلى موقع الانسحاب أو التعطيل، في مؤشر على تراجع القدرة لا الإرادة فحسب، وعلى فتور داخلي تجاه التزامات النظام الدولي الذي كانت واشنطن عماده الرئيسي.
ومع اعتبار نظرية “أرغي وهارفي” – حول الدورة المالية للإمبراطوريات – بأن القوة المهيمنة في مراحلها المتأخرة تتراجع إنتاجيا وتعتمد على نفوذها المالي والعسكري لإطالة أمد هيمنتها، يمكن استشراف ما يسعى إليه “ترمب” من خلال هذا التوجه، لكن يبقى محفوفا بالمخاطر، فالحلفاء التقليديون باتوا أكثر انفتاحا على الصين، فيما يتحفظ الشركاء الجدد عن تمويل نموذج مالي مشكوك في استدامته، وقد بات واضحا أن بعض الاقتصادات الكبرى بدأت بتحويل احتياطاتها نحو الذهب وعقود الطاقة طويلة الأمد، لا بدافع التنويع وحده، بل تحسبا لهشاشة النموذج المالي الأمريكي، ونقدا ضمنيا لمتانة هذا النموذج وإمكانات الوفاء بالتزامات “واشنطن”.
اليوم، لم يعد الدين الأمريكي رقما يتضخم، بل خللا في معادلة قيادة العالم بدين لا تثق به الأسواق، وهذا الخلل يشير إلى مرحلة انتقالية في النظام الدولي، حيث لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على موقعها في قمة الهيكل العالمي إلا بأدوات ضغط خارجي لا أدوات جذب داخلي، وإذا لم تدرك “واشنطن” أن أدوات التمويل القديمة لم تعد صالحة لعالم اليوم، فإن الانحدار من أحادية أمريكية ممولة بالدين، إلى تعددية قلقة تحكمها موازين قوى متنافرة، لن يكون احتمالا طارئا، بل نتيجة حتمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال